مي مظفر .. خطوات إمرأة حزينة !

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد فاضل *

لأنها تعشق ألعراق ولا تريد ألفكاك منه فقد نأت عنه بعيدا حتى لاترى جراحاته تسيل بالقرب منها ، حتى لاترى دمعة تنساب من عيون طفلة صغيرة فتنهار لأنها تعلم كم هي رهيفة ولا تتحمل ألدموع .

مي مظفر في مجموعتها ألشعرية ألجديدة ( من تلك ألأرض ألنائية ) تجلس على تلة عالية ترقب ألغيوم علها تخبرها أنها راحلة صوب ألعراق ..تلك ألأرض ألتي أصبحت عنها نائية وماانفكت تحلم يوما أن تقبل ترابها ، ناسها ، أضرحة أئمتها ، وسعيفات نخيلها .

من تلك ألأرض ألنائية التي صدرت مؤخرا عن ألمؤسسة ألعربية للدراسات والنشر ببيروت أخذت مي مظفر بتقسيمها تحت مسميات ( أحوال ألغربة والتغرب ) و ( أينما تكون ..سلاما ) و ( ما بين بين ) ثم ( أوطان مفخخة ) .

ألشاعرة مي عباس مظفر ألخالدي ألمولودة في بغداد عام 1940 حصلت على ألبكالوريوس في ألأدب الإنكليزي من جامعة بغداد وعملت في شركة ألتأمين ألعراقية كباحثة ومترجمة لمدة خمسة عشر عاما ثم تفرغت بعدها للكتابة ، كان لها موعدا غير مسبوق مع ألغربة فحملت حقيبتها وآهة دفينة تكاد تقتلها ، لكنها لم تختر ألغربة ترفا بل إختارتها مجبرة .

في هذه ألمجموعة إختارت ألشاعرة رسالة من صباح ألناصري أستاذ ألأدب ألعربي في جامعة ليموج ألفرنسية لتكون بمثابة ألمقدمة لها ، والناصري في رسالته كمن يمنح هذه ألمجموعة ألشعرية تكملة لما بدأته مي في تقسيماتها يقول فيها : ( ويمر أمام عيني طيف كل ألرجال والنساء ، ألذي يعود وأنت تتصورينه قد عبر إلى ألضفة ألأخرى والذين يعودون أشباحا يسكنون غرف ألبيت ، أو ظلا أو ضوءا مثل ألشمس أو يسكنون ركنا هادئا من صخرة أو محارة أو قلب نجمة ، ويصبح ألفقيد ريحا أو سحابا في ألمساء أو فراشة أو نسمة أو خيط شمس ويشق صوته ألأرض سنابل قمح ذهبية وزنابق من كتب ألشعر ).

وتزامنا مع صدور هذه ألمجموعة فقد صدر عن ( ألمحترف ) في عمان محفظة ( بورتفوليو ) للفنان ألعراقي رافع ألناصري حمل نفس عنوان ألمجموعة ألشعرية لكنه إحتوى على ستة لوحات مطبوعة بواسطة ألحفر على ألزنك ( غرافيك ) لستة قصائد حاول فيها ألفنان ألناصري أن يمازج بين ألكلمات ألشعرية والتشكيلات أللونية حتى خرجت هذه أللوحات ألست وكأنها قصائد طوحتها أمواج ألبحر فاختلطت بزغبه مكونة طلاسم سحرية رائعة ، في إحدى قصائد ألمحفظة نقرأ :

في ألليل سامرني قمر

فسحبت من تحت ألجناح حقيبتي

وسرت تحملني ألرياح

ما لها من مستقر

وفي عودة إلى ألمجموعة ألشعرية نقرأ قصيدة أخرى تتحدث عن حضور خفي للراحلين وما أكثرهم في ألعراق :

أغلقت ألباب ورائي لم أترك غير ألجدران ترافقني

في غرفة بيت مسكون

بشخوص أخرى ترقبني

تترصد خطوي

تومئ .. تغمز .. تحفر وجها في ألجبصين

وتخفي ناسا في ألأركان

فأكاد بأذني أسمع همسا يأتي من شق

في تلك ألمنضدة وذاك ألبرفان

من هفهفة ألموسلين على شباك أغلق منذ سنين

شفة تهمس

ريح تجري بين أصابع كفي ألذابلتين

جمع يتدفق دون إستئذان

ليطارد وجهي في كل مكان

إننا حين نقرأ ما خبأته سطور هذه ألقصائد إنما نقرأ أجواء ألفقد والموت وقد تحولا إلى خبز يومي للعراقيين بفعل هذه ألنتوءات ألهمجية ، ولأنها عراقية فهي تصور ألأحزان ألشخصية والعامة فتبدو هذه ألأحزان في أحيان كثيرة واحدة يصعب ألتفريق بين خاصها وعامها فهي لديها ألقدرة عل تصوير أحزان ألآخرين بألفة فكأنها تحمل خلاصة تجارب ألآخرين ومحنهم من خلال محنتها ألشخصية .

تقول حين فجعت بمقتل شقيقها : ( فقدت شقيقي بعد الإحتلال ، كان ذاكرتي وكنت أستعين به ليخبرني عن تفاصيل نسيتها ، علما بأنه كان مؤرخا أيضا ) ، وبفقدانه تبدو في قصيدتها كأنها فقدت ذاكرتها تقول :

وثقوا يديك إلى ألسرير

وغيبوك .. غيبوك

ليكبحوا جماح ثورتك

في يقظتك عذاب ممض

وفي سباتك إستكانة غريبة

وأنا لاأملك ما أقول

أما في ( أوطان مفخخة ) وهو ألقسم ألرابع من نصوص ألمجموعة وإن كان قد إشتمل على مقاطع قصيرة إلا أنها من أقوى نصوص ألمجموعة ، فهي تكاد تكون مشحونة بلغة مجنحة تحوم على مشاهد من ألخراب والحطام ألنفسي للذات ، والفعلي للمكان:

تحت ركام ألخراب ألذي كان مدينة

والحجارة ألتي كانت بيتا

عن ألأعمدة ألمحروقة ألتي كانت شجرا

والدم أليابس ألذي كان بشرا

أبحث هناك..

فتحت ألخرائب والحجارة والتراب

سبائك ذهب لم يلتقطها ألغزاة

مي مظفر ما يلفت في قصائدها حقا هو هذا ألوصف ألمتسلسل لشقاء لايحتمل ، إنها تسرد بالشعر يوميات ألخسائر كأنها باتت أمورا يومية تدونها وهذا ما نلمسه في هذه ألأبيات :

أمك تراك كل يوم

تحثو على قدمك النافرة من تحت ألغطاء

تلمس بالسر جلدك ألأزرق ألمتصلب

تساءلت بعين ألفجيعة عن أشياء لاتدركها

كان وجهها آخر ما رأيت

دمعت عيناك فتمزقت روحها

في اليوم ألتالي

عصبوا عينيك وأغلقوا كل نوافذك

لم يتركوا لها مدخلا تلج منه سوى ألتسبيح

والشاعرة مصورة فذة في نقلها لنا الآلام ووجوهها ألمختلفة ، ففي تصوير رائع في غرابته للوحشة ولزمن ألأحزان ألذي لايتحرك وكأنه لايزال مربوطا بأمراس ألكنان ألتي تحدث عنها أمرؤ ألقيس تقول :

ألساعة ظلت واقفة بعد ألظهر

ظلت ساكنة فوق الحائط

تتطلع في وجهي ألمبلول

تتكتم عن قول .. وتقول

ألساعة ظلت واقفة

والصمت يفيض ويهطل غيما أبيض

ألساعة وجه إمرأة

نزفت ماء ألعين

ويداها مرسلتان على جسد مشلول

والوقت يطول..

أما ألفجيعة ألكبرى فهي عندها ما يبدو من عبثية ما يجري بالنسبة إليها فهي تعجز عن فهمه فتقول :

إنهم لايعرفونا

إنهم لم يعرفونا

لم يذوقوا ماء نهرينا

ولا خبزا خبزنا بيدينا

ما رأونا قبل هذا أليوم قط

فلماذا يقتلونا؟

حفلت ألمجموعة ألشعرية بقصائد نثرية وفي إحداها تصف لنا ما يجري في بلدها وتصوره مفجعا ، ولعل أثره في ألنفس ناتج عن بعده نوعا ما عن ألخيال أو فلنقل عن ألتصوير ألشعري الخيالي تقول :

على غفلة من قطاع ألطرق

وبنادق ألمارينز ألمكهربة

تتسلل ظلال ألعراقيين

لتبحث من بين ألجثث ألمشوهة عن ولد فقيد

وتلم من فوق ألأرض ألمحروقة

ما أبقته ألنار من بشر

يذكر أن للشاعرة مي مظفر إضافة لمجاميعها ألشعرية كتبا نقدية وقصصية ك / محنة ألفيروز / و / بريد ألشرق / و / حياتي مع بيكاسو / و / نصوص في حجر كريم / و سفر في ألمدى / و / ملامح من سيرة ناصر ألدين ألأسد .

هذه هي مي مظفر .. شاعرة وإمرأة يتنازعها ألحزن ، ترى من يقدر على رفعه وقد تربع في قلبها قبل أن يتمكن من كلماتها ..

ــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وناقد عراقي

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم