مطر خفيف

مطر خفيف
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

"من الآن سيكون الأمر مختلفاً إن شئت، من الآن سنكون اثنين نحضر في ليالي المطر، ربما هكذا يحالفنا الحظ وإلا سنكون مجرد اثنين في ليالي المطر".

خوليو كورتاثر (لقاء في دائرة حمراء)

وجدت نفسها في مطار فخم لمدينة أجنبية، معها زميلان، كأنهم جميعاً في رحلة عمل. كان الإيقاع سريعاً والناس يسيرون كما لو أن حياتهم مرهونة بمدى اتساع خطوتهم. لغات مختلفة تسابقت على احتلال الفضاء المحيط، وشعور ثقيل بالتوتر انتابها بينما تتابع النظرات القلقة لزميليها. بدوَا كأنما يتجاهلان وجودها عن عمد. كانا مرتبكين مثلها وإن جاهدا لمحاكاة الآخرين ممن يتحركون بسرعة واثقة. اختفيا فجأة عن مجال بصرها ولم يشعرها هذا بالخوف أو الاندهاش.

ثمة وسيلة حتماً للذهاب إلى فيسبادن”! قالت بصوت خافت.

أعادت ترديد الاسم فبدا غريباً بدرجة كبيرة. “فيسبادن؟ لماذا عليّ أن أذهب إلى هناك؟” لم تجد جواباً مناسباً.

استرجعت ما تعرفه عن المدينة. لم تكن تعلم سوى أنها تقع في ألمانيا، وفي قصة تحبها لخوليو كورتاثر عن “خاكوبو”،  الذي حاول شبح امرأة إنجليزية تشبه خلد الماء، أن يحذره من المصير المحتوم داخل المطعم البلقاني الخاوي في ليل فيسبادن الماطر، وانتهى الأمر بهما إلى أن يصيرا معاً شبحين ينتظران في ليالي المطر.

بفضل العزيز كورتاثر، تحولت المدينة، في مخيلتها، إلى بقعة خرافية مسكونة بأشباح تجاهد لإنقاذ ضحايا محتملين من براثن قتلة باردي الأعصاب، متخفين في مطعم صامت به شموع ينبعث منها ضوء شحيح، لذا كان مجرد التفكير في أن فيسبادن هي وجهتها التالية كفيلاً ببعث القشعريرة في جسدها، كأنها الضحية التالية الباحثة عن خاكوبو، وخلد الماء كي ينقذاها.

بفستان ملون قصير، وحذاء بكعب عالٍ مدبب، سارت فوق الأرضية اللامعة للمطار. خطواتها تدَّعي الطمأنينة، وتخلِّف رنيناً مزعجاً، بينما تفكر هي حائرةً في أقصر الطرق للوصول إلى فيسبادن.

انتبهت إلى أنها دخلت دهليزاً خرجت منه إلى مفترق مجموعة من الممرات المعدنية المتقاطعة. لم تعرف كيف وصلت إلى هذه النقطة رغم اتباعها علامات إرشادية كان من المفترض أن تقودها إلى محطة القطارات المتصلة بالمطار لنقل الخارجين منه إلى المدن الراغبين في الذهاب إليها.

وحدها في غابة الممرات تلك. وقع خطواتها على الأرضية المعدنية بات لا يُحتمل، ودقات قلبها أخذت تتسارع، ولا من شخص آخر في هذا الفراغ.

ثم تلاشت محطة القطارات، ومعها المطار برواده المسرعين، وبقيت بمفردها تفكر في أنها محتجزة في اللامكان. واصلت سيرها بشكل عشوائي إلى أن فوجئت بنفسها في عمق مخزن عتيق، شبه معتم، ومزدحم بالخردة والروبابيكيا. وصلها صوت اطلاق نار ورائحة حريق، كأن العالم بأسره يتفّحم ويحترق في الخارج.

أبصرت باباً حديدياً يكسوه الصدأ، دفعته فانفتح متأرجحاً. خرجت فإذا بها في مدينتها الأم وقد تحولت إلى فخ هائل يلوِّنه دخان أبيض كثيف.

الشوارع إكتّظت برجال الشرطة. حواجز أمنية أغلقت المداخل، ومدرعات طوّقت كل شبر. على مقربة سارت خمسينية بدينة بملابس سوداء، تحمل كيساً به خضر وفاكهة وأرغفة خبز طازج، كأن الحياة على وتيرتها المعتادة. نظرت بتجهم إلى “كوردون” لجنود الأمن المركزي وهمهمت، قبل أن ترفع صوتها بغضب: “هيَّ حرب، ولاّ كانت حرب؟!”

واصلت المرأة طريقها معتبرة أنها أدت حصتها من الاحتجاج، وتجاهلوها هم في ترقبهم الحذر خلف الدروع مدججين بأسلحتهم.

أصوات صراخ وضجيج كانت تأتي من بعيد، المدينة، كلها، أضحت ضباباً كريه الرائحة، وهي أشاحت بعيداً عن المرأة البدينة، وحرصت على عدم النظر في أعين الجنود والضباط .

ركضت فاتسع العالم وانهارت حوائط قديمة. كأنها بطلة في لعبة كمبيوتر، راحت ترتقي من مرحلة للتي تليها، ومع كل خطوة للأعلى تزداد الخطورة. تجاوزت حاجزاً أمنياً فواجهها حاجز أصعب. تسللت من شارع جانبي إلى آخر أكثر جانبية بحثاً عن منفذ إلى قلب الأحداث، لكن زخة من رصاص كثيف أجبرتها على الاختباء في مدخل إحدى البنايات.

في هذه اللحظات لم تكن ترتدي فستانها الملون القصير، ولا حذاءها ذا الكعب العالي والرنين المزعج، إنما سروال جينز ضيق، سترة جلدية بنية اللون، حذاء رياضي، وكوفية حول رقبتها. المطار والمتاهة المعدنية صارا جزءاً من واقع آخر مراوغ.

خطر ببالها اسم المدينة الألمانية فهزّت رأسها بفتور فيما تتأمل المكان حولها. “لستُ في قصة كورتاثر، بل في الحياة الواقعية” فكرت.

لم يكن ثمة شوارع خالية، ولا صمت مُخَيِّم، ولا ليل ماطر، بل رقعة تتعمد بالدم وتشتعل تحت قصف جنوني. صارت المدينة بأكملها دائرة حمراء تعج بأناس يهتفون بغضب، يحاصرها رجال عنيفون بأزياء رسمية داكنة.

لم تعد وحدها. هي الآن ضمن حشد كبير، نقطة في نهر، حبة رمل في صحراء شاسعة ومع هذا تشعر بفرديتها على نحو مكثف. يجتمع الحشد في الشوارع ويتفرق تحت ضغط الهجوم عليه، ثم يعاود الالتحام.

عادت من جديد، طفلة بعينين متسائلتين، وشعر بني طويل، تتسلق –  حافية القدمين – تلاً رملياً ذات ظهيرة حارقة. تدوس الرمل، الملتهب بفعل الشمس، فيلسعها. ترفع إحدى قدميها بالتبادل مع الأخرى، للتخفيف من حدة اللسع بلا فائدة.

حقل شاسع من الرمال الساخنة كان عليها اجتيازه، بعدما فقدت حذاءها وهي تركض خوفاً من كلب ضال طاردها قليلاً ثم عاد أدراجه مكتفياً برؤيتها تخلِّف الحذاء وراءها.

فوق التل، جلست لترتاح وذهنها خالٍ إلاّ من الألم المتسلل إليها من سخونة الرمال. لم يشغلها وقتذاك ماذا ستقول لأمها، ولا المدى الذي قطعته بعيداً عن بيتهم. تمددت وأغمضت عينيها مستحضرة النيل القريب وقت انحساره شتاءً. تخيلت نفسها نقطة في مائه أو حبة من رمال التل منسجمة مع محيطها ومتوحدة به.

تماهت مع لحظتها تلك ولم تعد تشعر بأي شيء آخر. وجدها أهلها، لاحقاً، بعد بحث مرهق، فاقدة الوعي ومصابة بضربة شمس. خافوا عليها، وظنوها في حالة خطرة، مع أنها حافظت على ابتسامة هادئة حتى وهي نائمة غير قادرة على الحراك.

بعد سنوات عديدة ها هي الآن، تراوغ الموت المتجول على مقربة منها. تسعل وتبكي، رغماً عنها، لكنها لا تكف عن الهتاف. طنين عجيب يرن في رأسها، كأن صدى هتافات العالم أجمع عبر تاريخه كله تحيط بها.

لم تعد تتذكر شيئاً عن خاكوبو أو خلد الماء أو ليل فيسبادن الماطر. تكثّف الضباب الأبيض ليغطي الأفق. كان ثمة رائحة حريق تلتصق بجزيئات الهواء، عربات مجنونة تدهس العشرات، وشظايا مطاطية تخترق الأجساد.

خرجت من مدخل البناية إلى ممر ضيق بين شارعين، كادت تتعثر في فوارغ قنابل الغاز، تجاهلت وجع ساقها وخطت بتثاقل.

جرَّت ساقها التي تحولت إلى عبء يثقل عليها، وواصلت سيرها. معظم المحال مغلقة، والبنايات أوصدت بواباتها بإحكام على قاطنيها. بعضهم شرع يتلصص بفضول قلِق – من الشرفات أو عبر النوافذ المواربة – على ما يجري بالخارج. والبعض الآخر حاول المساعدة بإلقاء زجاجات مياه أو أي شيء يحسبه مفيداً لمن بالأسفل، أما الباقون فاعتصموا بالداخل كأنه رحم حنون يقيهم أهوالاً هائلة.

استمرت في الخطو فوق أرصفة متكسرة. عيناها تؤلمانها، وقدماها لا تكادان تحملانها. قابلتها جموع تعدو، التصقت بباب حديدي قريب، فاكتشفت أنه غير مغلق. دلفت إلى الداخل لتتعرف على المخزن المهجور بظلمته الخفيفة، بحثت بعينيها يائسة عن مساحة تستريح فيها. في النهاية تمددت على ظهرها فوق الأرضية وأخذت تحدق في الظلام ساهمةً قبل أن تغمض عينيها وتغرق في ليل ماطر لمدينة باردة.

جاءها أزيز الرصاص بالخارج كموسيقى تصويرية تؤطر العالم من حولها. رأت نفسها تسير تحت مطر خفيف في مدينة غريبة مع شخص لا تعرفه وإن بدا كـ”خاكوبو” كما تخيلته. كانت جميلة كما لم تكن من قبل، جميلة كفكرتها عن الجمال. مرت أمامها مشاهد متعددة من يومها الصاخب. شعرت بأن خطوات ذات رنين معدني تتبعهما، استدارت فلم تجد إلا الفراغ. الرصيف المبتل بماء المطر انعكست عليه اضاءة المصابيح فامتَدَّ برَّاقاً.

 

* من المجموعة القصصية “نحو الجنون“..

*القصة المشار إليها هي “لقاء في دائرة حمراء” والتي استلهمها كورتاثر من لوحة بالعنوان نفسه (تعرف أيضاً بدائرة المجانين) للفنان الفنزويلي خاكوبو بورخيس.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال