مختارات من “طرف غائب يمكن أن يبعث فينا الأمل”

مختارات من "طرف غائب يمكن أن يبعث فينا الأمل"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علاء خالد

فى فترة من حياتى ركزت فيها على شحذ موهبتى فى التقاط الأشياء الدقيقة . لا أتذكر بالضبط كيف اكتشفت فى نفسى تلك الموهبة إلا بعد احترافى الكتابة ، بدأت تظهر لى القيمة التى تحتفظ بها تلك الأشياء ، وأتذكر كلام احدى السيدات . قرأت ديوانى الشعرى ، وقالت لى ما معناه أن الأشياء الدقيقة وملاحظتها تخص المرأة أكثر من الرجل . تعنى أن الحميمية التى تعطى لهذة الأشياء الحياة تنشأ غالباً من التصاق المرأة بعالمها الصغير ، جسدها ، غرفتها ، حتى تلك الأشياء التى تتزين بها تساهم فى تجزىء هذا العالم وإسباغ مزيد من الدقة عليه . أما الرجل فنظرته كلية إلى عالمه المحيط ، لأن مشكلته الأساسية هى كيف يثبت نفسه لا أن يتأملها هى والعالم المحيط بها . أعدت التفكير فى هذا الكلام وجدت به بعض الصحة ، وهو ارتباط الدقة والتفاصيل بمسحة أنثوية ، تبغى بث الحميمية فى العالم الصغير المحيط بنا . فى الطفولة تتوزع الأدوار بدون ان ندرى ، تنبت بذور هذة الدقة ، يبدأ الطفل فى تفقد العالم الصغير المحيط به ، عالم الأم . ربما الحنين الدائم لهذا العالم ، يجعله متمسكاً أكثر بهذة الحدود ، لا يريد أن يكبر . لو توقفت الحياة عند هذة الحدود لما حدثت أى مشكلة ، ولكن هناك عالما اخر كبيرا لا يمكن تجاهله ، وكلما زاد الإحساس بكبر هذا العالم كلما زادت حدة الطفل فى حماية عالمه الصغير ، فى تكديسه بالتفاصيل ، هذا الطفل نفسه ربما يلجأ إلى حيلة أخرى ، بأن يحمى نفسه من الكبر ، من التقدم فى العمر . ماذا يعنى التقدم فى العمر سوى الطريق الذى له نهاية ، فى آخره ينتظر الموت بقوته الضاغطة . هل التمسك بحدود العالم الصغير وحمايته ليس إلا خدعة لشىء آخر ، وهو البحث عن خلود لا يتسلل إليه الموت .

كل ما كان صغيراً يصير فى حياة أخرى كبيراً ، يرجع الحنين للأشياء المنسية ، بحكم دقتها وبساطتها ، ليبث فيها ضخامة ما ، يضيف إليها بعداً لم يكن موجوداً بها . وربما أيضاً ، أن الأشياء الأولى تكبر هى الأخرى معنا ، وتنمو فى صمت وتعيش حياة صامتة بالقرب منا . إننا لا نعيش عمراً واحداً يجعل هذة الأشياء ثابتة فى حجمها ، وفى درجة حبنا أو كرهنا لها ، وإنما يتغير العمر بإيقاع صاعد وهابط ومع هذا التغير تتغير نسب تلك الأشياء القديمة فى ذاكرتنا وفى نسب حبنا لها. الحنين الكامن فى فكرة النمو نفسها ، فى تقدم العمر ، فى اختلاف بيت الطفولة عن البيوت التى ستأتى بعده .

لايمكن أن يكون الحنين مشاعاً على كل ذكريات الطفولة ، وإلا يفقد أهم عناصره وهو انتقائيته ، ويتحول إلى آله تعيد شريط الحياة كما هو ، دقيقة بدقيقة . لأنه جوهرى فهو يتوجه إلى الأشياء الجوهرية .

ينتقى من الذكريات ما يخدم الغرض الذى وجد من أجله . لايتعارض هذا الحنين مع احد أشكال الوعى الحديث الذى يحاول ان يقطع الصلة تماماً بالماضى . بالتأكيد هناك فى الماضى أشياء يجب نقدها ، بل والتخلى عنها ، وهناك أشياء وذكريات تتجاوز النقد ، ربما لأنها سحيقة فى نفوسنا ، وربما كذلك هى أحد الأعمدة التى تدعم الشخصية ، فالشخصية لا تعيش فقط بالحقائق ، أشياء الماضى غير قابلة للنقد ، لأنها ببساطة غير قابلة للتغيير .

لا ينضج هذا الحنين إلا بعد أن يهضم الطفل كل الذى كناه ذات يوم ، والذى عاصر موقعه بناء الذكريات بعد أن يفسح هذا الطفل من حدود ملكيته الضيقة . أما من ظل محافظاً على هذا الطفل الأنانى أصبح حنينه ليس إلا عودة إلى الطفولة بكل ماديتها ، ولا مسئوليتها ، كذلك ، حتى لو كانت اللامسئولية هذه هى الألم نفسه . أما الحنين الآخر فهو عودة ولا عودة فى نفس الوقت ، لأن الطريق الذى تقطعه رحلة العودة لم يعد يقف عند حدود الطفولة ورموزها ، ربما يتعداها إلى طفولة أخرى ، إلى الماضى والمستقبل أيضاً. تجاه هذا الشىء الجوهرى الذى لا زمن له : البراءة . الطفولة وبراءتها احدى صنائع الحس الدينى ، أو بمعنى ما الحس الصوفى ، ولا مهرب منها . التذكر هو العمر الثانى لنا ، الموازى لأعمارنا ، حتى ولو أخفى هذا التذكر حنينا للأم ، لرموزنا المحملة بالأنوثة والحنان . البحث فى أصل من أصول الحياة غالباً ما يمر ، ويتوقف أحياناً ، بهذا المعنى الأمومى للحياة ، المعنى الديني الحديث .

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم