كل ما كان صغيراً يصير فى حياة أخرى كبيراً ، يرجع الحنين للأشياء المنسية ، بحكم دقتها وبساطتها ، ليبث فيها ضخامة ما ، يضيف إليها بعداً لم يكن موجوداً بها . وربما أيضاً ، أن الأشياء الأولى تكبر هى الأخرى معنا ، وتنمو فى صمت وتعيش حياة صامتة بالقرب منا . إننا لا نعيش عمراً واحداً يجعل هذة الأشياء ثابتة فى حجمها ، وفى درجة حبنا أو كرهنا لها ، وإنما يتغير العمر بإيقاع صاعد وهابط ومع هذا التغير تتغير نسب تلك الأشياء القديمة فى ذاكرتنا وفى نسب حبنا لها. الحنين الكامن فى فكرة النمو نفسها ، فى تقدم العمر ، فى اختلاف بيت الطفولة عن البيوت التى ستأتى بعده .
لايمكن أن يكون الحنين مشاعاً على كل ذكريات الطفولة ، وإلا يفقد أهم عناصره وهو انتقائيته ، ويتحول إلى آله تعيد شريط الحياة كما هو ، دقيقة بدقيقة . لأنه جوهرى فهو يتوجه إلى الأشياء الجوهرية .
ينتقى من الذكريات ما يخدم الغرض الذى وجد من أجله . لايتعارض هذا الحنين مع احد أشكال الوعى الحديث الذى يحاول ان يقطع الصلة تماماً بالماضى . بالتأكيد هناك فى الماضى أشياء يجب نقدها ، بل والتخلى عنها ، وهناك أشياء وذكريات تتجاوز النقد ، ربما لأنها سحيقة فى نفوسنا ، وربما كذلك هى أحد الأعمدة التى تدعم الشخصية ، فالشخصية لا تعيش فقط بالحقائق ، أشياء الماضى غير قابلة للنقد ، لأنها ببساطة غير قابلة للتغيير .
لا ينضج هذا الحنين إلا بعد أن يهضم الطفل كل الذى كناه ذات يوم ، والذى عاصر موقعه بناء الذكريات بعد أن يفسح هذا الطفل من حدود ملكيته الضيقة . أما من ظل محافظاً على هذا الطفل الأنانى أصبح حنينه ليس إلا عودة إلى الطفولة بكل ماديتها ، ولا مسئوليتها ، كذلك ، حتى لو كانت اللامسئولية هذه هى الألم نفسه . أما الحنين الآخر فهو عودة ولا عودة فى نفس الوقت ، لأن الطريق الذى تقطعه رحلة العودة لم يعد يقف عند حدود الطفولة ورموزها ، ربما يتعداها إلى طفولة أخرى ، إلى الماضى والمستقبل أيضاً. تجاه هذا الشىء الجوهرى الذى لا زمن له : البراءة . الطفولة وبراءتها احدى صنائع الحس الدينى ، أو بمعنى ما الحس الصوفى ، ولا مهرب منها . التذكر هو العمر الثانى لنا ، الموازى لأعمارنا ، حتى ولو أخفى هذا التذكر حنينا للأم ، لرموزنا المحملة بالأنوثة والحنان . البحث فى أصل من أصول الحياة غالباً ما يمر ، ويتوقف أحياناً ، بهذا المعنى الأمومى للحياة ، المعنى الديني الحديث .