متلازمة التعذيب في “حذاء فيلليني” للروائي المصري وحيد الطويلة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 82
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نبيلة علي

أنت الأولى كما تقول قواعد العشق، وأنا رجل يمكن تصنيفه دائماً بأنه عاشق قديم”.

وكأننا أمام رواية صوفية أبطالها عشاق ونساؤها نصف آلهة “إن الأممية التي اتبعتها مدينتنا لا يظهر جمالها إلا في أرواح ووجوه النساء”. لنكتشف علاقة أخرى اتبعتها الأممية المزعومة في سلطتها على البشر ، وإحدى أدواتها للاستمرار هو السجن والتعذيب.

لقد كُتب الكثير من الروايات والسير الذاتية والمقالات عن التعذيب والسجن والسجان، إذن ما هو الجديد في تلك الرواية؟ ما هو الجديد الذي نقف عنده يجعلها متفردة بالطرح.

كما اعتدنا في روايات التعذيب والسجن، هناك علاقة ثنائية بين السجين والسجان، لكن في هذه الرواية هناك علاقة ثلاثية بين السجين والسجان وزوجته،.حيث تصبح تلك المرأة زوجة السجان، بطلة السرد، وهي بلا اسم ولا ملامح معينة، هي امرأة ما متزوجة من رجل ديكتاتوري ظالم سجان للفكر وللحرية، فهي تمثل أغلبية النساء الخاضعات للقهر والذل. تمثل المنعكس الفكري والأيديولوجي والسياسي للرجل، بما يحمله من موروث قهري عبر الأزمان.

“يطفئ الجريمة بجريمة”

تسرد من خلال جسدها كيف يتم التعذيب في الأقبية والسجون “خمسة وعشرون عاماً من الإعترافات القسرية حتى وقع المحظور”. “الليلة التي يعذب فيها واحداً وينال اعترافات يدخلني من الأمام ليرى وجهي ويتلذذ باعترافاتي، والليلة التي يخفق فيها مع مسجون يدخلني من الخلف”. يصبح صوت الرجل صوت السلطة عبارة عن مفردات في أذن المرأة المتلقي. “تتمنى المرأة لو تتقيأ روحها حين تعرف في نهاية العمر أنها كانت مطية لا رفيقة”. اذن نحن أمام نوع جديد من السرد لفكرة التعذيب، وكيفية التعبير عنها، حيث كانت متمثلة دائما ببنية ثابتة، ثنائية السجين والسجان، أو الجلاد والضحية، أو المثقف والديكتاتوري.. لكن هنا في رواية “حذاء فيلليني” نحن أمام ثلاثية السجان الضابط وزوجته والماثل بينهما السجين، هذه الثلاثية تعكس مفرزات وأخلاق الفكر السلطوي الديكتاتوري على الجميع عامة، وعلى المرأة خاصة. “الرعب ليس شخصاً إنه سرداب عميق في الروح، قشعريرة موت تسري في البدن.. هو ليس شخصاً هو دولة بكاملها”.

الرعب على لسان الزوجة يصبح شبحا يطارد الجميع ويضعهم في قطيع واحد يرددون المفردات والقيم والسلوكيات نفسها “أنا لا أحكي عن التعذيب، فمئة رواية كتبها كتاب من مختلف بقاع العالم، لم تشف غليل أحد، ولا جعلت السلطة تتوقف عن التعذيب، ولا جعلت الجمهور الغبي يقف ضد التعذيب”. حوارات عديدة تسردها الزوجة المرأة للسجين، عن أخلاق زوجها السجان، هو نفسه يمارسه بالقبو مع السجناء، كيف يعذبها ويغتال إنسانيتها، ويزداد تعقيد المشهد وكأننا أمام شريط فيلم ترتفع فيه سوية التوتر، لتصبح الزوجة هي الأقوى والسجان هو الأضعف، وتحصل فيها على فرصة الانتقام منه، “ لم أكن أريد له أن يحظى بشرف الانتحار، ولا أن يقتلني فأصير شهيدة جلاد، قاتلة جلاد أفضل بكثير. لم أؤمن يوماً بأن البخت لمن بات مغلوبا”.

من أين يتأتى كل هذا الكره وردات الفعل؟ كما قلنا سابقاً إنها انعكاس لكل ما يفرزه هذا السلطوي الجلاد من قهر وتعذيب يحصل على جسدها وفي روحها المحطمة، “أعادني ذات يوم لأهلي… إنما فقط ليعتلني وسط أهلي حتى يصل صراخي إلى آذان من لم يوافقوا عليه”. المرأة هي الكائن الأضعف المنعكس النفسي والفكري والأخلاقي لمكونات المجتمع وأدواته وفكره، هي تعيد إنتاج السلطة نفسها تدير أدوات القمع نفسها، التي مورست عليها وأنتجتها لتكون أكثر قسوة “البيت كان قبراً لي، بروفة للقبر الأخير، الآن أصبح قبراً له، ليس بروفة هو لا يحتاج إلى تمرينات على الموت، يحتاج إلى الموت نفسه..”.. رغم أن المرأة في هذا المستوى وتلك الثلاثية من السرد هي المتلقي وهي سارد وشارح لكل العذابات، كان من المفترض أن تتمتع بلحظة الانتقام عندما تغيرت جهة السلطة وأصبح بيدها قتله أو تعذيبه !

لكن الكاتب رفع من السوية الإنسانية للأنثى المرأة وحرف بشكل كامل كل منعكسات سلطة الرجل والمجتمع النفسية والجسدية عليها، إلى حالة أرقى إنسانياً، “لكن الثأر المتبادل لن يحل مشكلتي، لن يجعل جسدي سعيداً ولن يدع روحي ترقص”. وبدأت بالبحث عن شكل للحياة أفضل يحمي روحها وعقلها وإنسانيتها، “فلا استدر على نفسي إذن أبحث عن قصة حب أعوض بها كل سنواتي”.

في اللحظات الأخيرة من الحوار تتكشف لنا الحالة التعليمية للمرأة، التي لم تلعب أي دور في تحدي أو منع هذا التلسط عليها، إنها درست في الجامعة، خاصة علم النفس وهذا المؤشر الصغير يدلل على قدرة تلك الأنثى على أن تتخطى التجربة وتخوض حياة جديدة أكثر إنسانية. “بغير الحب لن أغفر للحياة لن أستطيع التسامح مع الغد بدونه لن أقدر على التعامل مع نفسي ومع البشر”.

تعدد مستويات السرد في الرواية من أهم سمات الرواية الحديثة، كما يشير باختين، وهي على مستويين: مستوى موضوعي للفكرة. ومستوى ذاتي يدخل في أغوار النفس الإنسانية التي يعكسها السارد، ويوضحها من خلال المونولوج الداخلي للسجين.

المستوى الأول تأتى على شكل ثنائية السجان وزوجته والوسيط الثالث السجين،

ثلاثية شديدة التعقيد والتغيرات بالمواقف والارتكاسات وردود الأفعال من الطرفين تجاه الطرف السلطوي القمعي. أما المستوى الثاني الداخلي الوجداني فأتي على شكل علاقة بين السجين وجارته. هذه الجارة أيضاً كما في المستوى الأول لا اسم لها أو معالم واضحة ، هي تشبه أي أنثى محبوبة، هي انعكاس لحالة السجين السارد النفسية والعاطفية. “رغم الآهات التي انطلقت لا أعرف مني أم منها، التقطتها رغم علو المسافة بما يليق براقص، بما يليق بحب الحياة، لقفتها ما استطعت بكل قوة روحي أخذتني وسقطنا معاً على الأرض”. تلك المشاعر المتدفقة والوجدانية، وهذا التجلي في المستوى الثاني من السرد الموازي للمستوى الأول، وكأننا أمام تعليق العالم، الذي يبدو بوصفه ظاهرة مباشرة للشعور الخالص الناتج عن الوعي الكامن “حين رأيتك ترقص وتدور تخيلت إنك تدور حولي وتفرد وجهك”. هذا السطوع للحب القائم بين السجين وجارته يحملك إلى عالم أكثر جمالا ليكون بديلا للعالم الآخر الموازي له، عالم القمع والتعذيب ، “في كل ألف وجه جميل تجد وجها ساحرا، لا تعرف من أين يأتي بمدده، ولا من أي جهة أو معين يسحب الفتنة، ومن أي جهة سيباغتك”. منولوج داخلي للسجين يعكس الحب والشهوة والحيرة، على سلوك الجارة وكل اختلاجاته الوجدانية الداخلية تنعكس على صورة المعشوقة والعاشقة، “كانت تقترب ما استطاعت صنعت من أصابعها ضوءاً للروح، اختفى من وجهها الشبق وحلت محله براءة مختبئة… ملأت البيت بدفء الحب “. كل صورة ولوحة أو تعبير داخلي يحسه ويشعره السجين له دلالاته عند الجارة.. الأنثى.. المرأة.. “. هي لا تفكر في نفسها هي تفكر بك أن تستعيد نفسك لتستعيدها أحياناً، تلبس لك ملابس فضفاضة واسعة كأنها ستخبئك فيها من كل مكروه “.

ستكون الأنثى الجارة هي المنقذة وبها سيتغلب على الثأر والخوف ، فهي الأنثى في هذا المستوى فقط، ارتداد لمشاعره متلق لذبذات عقله وأفعاله، “لم يعد هناك ما تخشاه، صوتك ذو الطبقة الواحدة ليس عورة في أحضانها ستتكفل هي بالأصوات العالية”. ينتصر الحب في العالمين المتناقضين المتوازيين في السرد لكلا الشخصيتين.

امرأة الجلاد تتركه رغم تمكنها منه وقدرتها على الانتقام لتجد الحب به تنظف ماضيها وتتجه نحو مستقبل جديد. ومطاع السجين يترك سجانه.. ظالمه، وهو القادر على إنهاء حياته وتعذيبه، كما فعل معه وبالطرق نفسها، لكنه آثر الحياة واختار حب جارته وحضنها الدافئ وأطفأ ذكرياته القديمة بيد من ماء، وأشعل بها ضوءاً جديداً ليعود مطاع بعد أن عاش فترة مطيعا، “في الحب لصوصية فاتنة يا مطاع واعلم إن الحضن هو نافذة الجنة وبوابة النار”. رغم مشهد المرأة الضعيف والمفعول بها كل وقت السرد، لكن السارد استطاع أن ينتصر لصالح الإنسان وكرامة المرأة، ويدعها تختار مصيرها دون سلطة قمعية أو سلطة ما ، “للجسد لغة وأبواق وشامات، ليس لكل امرأة شامة، ليست كل شامة جميلة، كل زاوية من زوايا كنزها تناديك، كأنها قطعت قروناً من العطش بك، وشيء ما سينفجر بداخلك، دعه يتفجر،عندما تبتعد عنك امرأة تحبها ترى جيداً تكاد تصرخ: عودي وخبئيني في دهليزك”.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم