وهنا يمكن أن يثار عدد من الأسئلة: هل تنتمي مريم إلى صوفيا والتاجي الكبير بوصفهما نموذجين لمرحلة ما قبل الثورة، أم تنتمي إلي يوسف وعبد الناصر، يوسف الذي جاء تكوينه الشكلي والنفسي مشوهين إلي حد بعيد، من خلال فقد الذراع وارتياده الغرز الحقيرة، وزجاجات الخمر التي تحفظ له هدوءه واتزانه، في إطار سيل المتغيرات؟ أم تنتمى إلى يحيى بعالمه الآني ويقينه الزائف؟ إن القارئ للرواية يدرك أن الشخصية الرئيسة تتجاذبها المحاور الثلاثة، كأنها مرايا متجاورة أو متعاركة، بالرغم من محاولتها الانسلاخ من العالمين الأولين، إلا أن العالم الثالث الذي تبحث عنه، لكي تضع نفسها في إطاره، أو تشكل حضورها الواضح من خلال وهجه، عالم تشوبه الهواجس، ويشوبه عدم الانسجام التام. إن الشخصية الرئيسة ـ مريم ـ تأتي في الرواية، وكأنها تحيا في عالم لا يخصها أو ـ على الأقل ـ ينكرها، وهي في الوقت ذاته تنكره، فتمسكها بصورة ونسق حياة بالية، في إطار نسق جديد له سطوته ووجوده، يشير إلي أن التحولات الكبرى، التي تصيب الكيانات الخارجية، ربما يحس بها الإنسان ويلمسها، ولكن الداخل الذاتي يظل في أغلب الأحيان في حالة ارتياب أو تمحيص فترة طويلة، محاولا في ذلك السياق التوقف عند صورته السابقة، التي تحفظ له هدوءه واتزانه، فارتداء مريم صورة جيفارا يشير إلى محاولة استبقاء صورة سابقة، كان لها تأثير واضح في فترة مد فكري وثقافي، والاتكاء عليها هنا يشير إلى رفض الآني. وثمة تقنية مهمة اتكأت عليها الرواية، وهي جزئية الملاحق النصية، التي كان لها دور فاعل في الإيحاء بتفرد النص الروائي، وانفتاحه إلى دلالات عديدة، منها طبيعة المكان، وكأنه جزء فاعل، وموح بتغييرات عديدة، وتحولات طبيعة الذات، ولهاثها حول صورة أو منطق تحاول أن تجعله منطلقا لتحركاتها وتشظيها في هذا الوجود. والذات ـ في ذلك السياق ـ لا تقف عند حدود النموذج الأنثوي، الذي يبحث عن وجه خاص، وإنما تحدث ـ بالضرورة ـ خلخلة وإزاحة، لكي تحل كيانات أخري في إطارها، فالإشارة في الملحق النصي الأول إلى سراديب القصر الملتوية، يشي بالعراك الداخلي، وبالتعدد، ومحاولة بحث الشخصية عن وجه تختاره، في مقابل وجه تحاول التخلص منه. وفي إطار ذلك التوجه، ربما تتعدد درجات الرمز ودلالاته، فالوجه الذي تحاول التخلص منه أو محوه، وثيق الصلة من خلال الملحق النصي الأول، بلحظة تاريخية، فالإشارة إلى شقة عابدين في لحظة الصحو، وتوديع مرحلة سرايا التاجي، مؤشر دلالي مهم في جر الدلالة نحو وجهة معينة، بحيث تغدو مريم الذات بتقلباتها العديدة، وثيقة الصلة بلحظات التحول المفصلي في حياة الكيان الأكبر. الاتكاء في بناء الملاحق النصية علي طبقتين اجتماعيتين، يشير من طرف خفي، إلى أن الرواية، لم تأت بريئة تماما من الهم السياسي والحراك الاجتماعي، بل هي منغرسة ومتجذرة فيه، ولكنها لا تعرض هذا الهم من خلال وجهة نظر معينة، تؤمن بها وتدافع عنها، ولكنها من خلال وجهة نظر وحدقة المراقب، ولكن ـ بالرغم من هذه الحيادية ـ يظل ذلك التشظي الذي يشير إلى المتاهة واضحا، فمريم ـ وكذالك الوطن ـ لا يظل على هيئة واحدة ، فهي في معرض دائم للتحول، ولكن شعورها ـ أو تأخر شعورها ويقينها ـ بهذا التحول، هو الذي يكون هذه المتاهة. السياسي وبناء الملاحق النصية على هذا النحو، ربما يشير إلى قيمة السياسي، الذي ربما يكون الخلفية التي تشكلت في إطارها الرواية، ولكنه لا يشكل العمود الفقري فيها، ولكنه يبقى مهما بوصفه جزئية تتأبى على التفسير الواضح للأجيال الجديدة. فمن سمات هذه الرواية أنها قدمت السياسي بشكل خاص، بعيدا عن الانتماءات الصارخة والرنانة، فهي تقدم محاولة للكشف أو الوعي، أو للخروج من نفق المتاهة، في حين أن هناك روايات لكتاب من الأجيال الجديدة، ما زالت تستجلب هذه الانتماءات الطنانة دون مبرر فني، فرواية (أحلام العايشة) لخليل الجيزاوي، و(حفيف الترائب) لخالد الأنشاصي، وروايات أخرى، ما زالت ممسكة ومتوقفة عند هذه اللحظة الفكرية، التي تم التعبير عنها من خلال روايات أجيال سابقة، قد يكون التعبير عن هذه اللحظة لصيقا بهم، مثل (بيت الياسمين) لإبراهيم عبد المجيد، (والحب في المنفى) لبهاء طاهر. ولكن هذه الرواية لم تقع في هذا الفخ، لأنها لا تريد الوقوف عند نفق مظلم باكية أمامه، وإنما تقف أمامه، لكي تسأل بحثا عن المعرفة، وتشكل محاولة المعرفة، وعدم تجليها بشكل واضح المتاهة في النهاية. والسرد في الرواية ليس سردا تراتبيا، وإنما هو سرد قائم على تقنية التشظي، بحيث جاءت أجزاء العمل وفق ترتيب خاص، لا ينتهج النمو البنائي، وإنما يقدم الأحداث بشكل خاص، بحيث يكون علي المتلقي تجميع هذه الجزئيات حتى يلم في النهاية بأطراف الحكاية، التي تتأبى على التنميط. وربما كانت هذه التقنية مهمة في إحساس المتلقي بمتاهته الخاصة في تلقي العمل، والبحث عن الشخصيات المتوازية والمتجاورة، التي تشكل رمزا لكل مرحلة من مراحل التعدد والتشكيل. فالرواية تبدأ بمحاولة الشخصية الرئيسة، التخلص من وجه لا ترضاه، وتركيب وجه ـ بالرغم من التناحر الداخلي ـ يكون مناسبا من وجهة نظرها، ثم يأتي الجزء الخاص بموت يوسف، الذي يشير موته إلى انتهاء مرحلة ما، قد تكون مرحلة الأعراف بين الملكية التي يمثلها التاجي، ومرحلة التحول، التي كانت مرحلة عاصفة، وسببا في محاولة الارتداد لمعاينة المرايا السابقة، وفي الجزء الثالث تعود الرواية للكشف عن طبيعة يوسف، وأثر التغيير، الذي جعله يقف مشوها في دائرة مغلقة، فهذا السرد الخاص الذي جاء مغايرا لزمن الحدوث، يشي بالمتاهة في عمق تجلياتها. ثم تعود الرواية بعد لمتاهة الذات، حين تقول (تسير مريم في شوارع المدينة كالمنومة)، لينمو الخط التصاعدي التدريجي، بعد الجزئيات السابقة، التي جاءت بوصفها خلفيات كانت مؤثرة في وجود المرايا العديدة، وفي محاولة التخلص من وجه، وتثـبيت وجه آخر مكانه. فالرواية ترصد التحول المفصلي من عصر إلى عصر، يتجلى ذلك في مشهد صالح ـ المولع بالجنازات وخفير جنائن التاجي سابقا ـ الذي يتكئ على عصاه، التي آلت إليه من انهيار لحظة سابقة في جنازة عبد الناصر، وبعد مرور عدد من السنوات كان يركب سيارة مرسيدس في جنازة الرئيس المؤمن، وهذا التحول السياسي، جاوبه ـ بالضرورة ـ تحول قيمي في تراتبية الطبقات. رواية (متاهة مريم)، قد تنطلق من متاهة آنية وذاتية، مرتبطة بيحيى المجدول بأفق الموت، ولكن في تجليها الدلالي، لم تبق على هذه الجزئية الحياتية، ولكنها انطلقت منها، ومن خلال هذا السؤال الذاتي الصغير إلى سؤال أكبر، يرتبط بالكيانات الكبرى والتحولات المفصلية في تاريخ الفرد والجماعة، وعوزه القـديم للمعرفة والتفسير.
“متاهة مريم” لمنصورة عز الدين.. جدليـة المحـو والإثبـات
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
عادل ضرغام
إن رواية متاهة مريم للكاتبة منصورة عز الدين رواية مهمة، لأنها لا تعطي مكنون دلالتها في إطار نسق دلالي واحد، فهي لا تقف عند حدود الذات الداخلة في المتاهة، وكأنها تعيش في عالم غير حقيقي، يحاول التبرم من وجودها، أو إقصاءها بعيدا عن إطاره، فمريم ـ الشخصية الرئيسة ـ يمكن أن تكون ـ إذا وسعنا دائرة التلقي ـ نموذجا للجيل الجديد، الذي لم يفهم التحولات السياسية التي مرت بها البلاد، ولم يقدم له أحد تفسيرا مقنعا لما حدث، ومن ثم فالمعرفة لدي هذا الجيل ـ والجيل في بداية تلقيه للمعرفة يبحث عن البياض الواضح لا عن الرمادي ـ ضبابية غير يقينية.