نهلة عبد السلام
رحلة طويلة وزادها قليل، بالكاد يقيم أودي، عمر لم أعرف كيف هو الشبع ولا ماهية الإرتواء، أستدل على وجودهما متتبعه ذات نهج استدلالى على الله، وبالمثل أيضاً أقفز على لحظات شكوكى وتذبذباتى وظنونى، أقفز وأحياناً أنكسر، وغالباً لا أكترث لإيجاد جبيرة، أو ربما لعلمى أن البحث بلا جدوى، أو أن الكسر لأخيه الكسر جابر، أو أن التشوه الذى سيخلفه الالتئام العشوائى هو بصمة الحياة على روحى، ختمها الذى يستحيل محوه ما دمت حية.
رحلة لم أختر أى سفينة أركبها، ولا حتى القبطان، جميعهم كانوا متخفيين أو بالأحرى متلونين، كلما أعدت النظر إليهم وجدتهم بهيئات مغايرة، بل ومربكة أيضاً، فى غضون ومضة تنبت لحاهم، تختفى شواربهم، تبرز خطوط بجباههم، تتصحر روؤسهم، تنطفئ حدقاتهم، تتلاشى ابتساماتهم، ثم وكأنهم فى خلق جديد، لم يمسسه شيب قبلاً، يتوهجون حتى يشتعل فتيل حماستى، أتجرأ فأعبر إلى السفينة على لوح خشبى مكتنز، أعبر كما البلهوانات ذراعى مفتوحان بلا أدنى تفكير عما سأضمهما عليه حال الوصول.
رحلة بدأت مع فرد الشراع وفك الرباط بالأرض الثابته على مبدأ الانتظار، على يقين من عودة كل المغادرين، حين يدركون أن الاستغناء أعلى مراتب التملك، وإلى أن يدركون عليهم أن يواجهوا ما يتربص بهم من عمق المياه، وما يتلاعب بهم من فلك السماء، الموج الحانى الذى يهدهد هو ذاته من سيضرب بكرابيجه متلذذاً بصيحات إستغاثتهم الملتاعة، القمر الذى يبدو بلا حول هو بذاته من سيرهقهم مد وجذر، تجلجل ضحكاته وقد تمكن منهم الدوار، ينظر إليهم ويكأنه بصدد عرض للتنورة وقد صاروا دراويشه، يطلبون المدد، البقاء ولو فقط حتى عودتهم، فهل للتراب ميزة على الماء إلى هذا الحد!
رحلة أصابتنى فيها عدوى التلون، نظفت الأرضيات على اختلاف درجات تدنى قاذوراتها وبالمقابل حظيت ببقايا الأطباق، ثم صرت تابعة أو وصيفة لإحداهن، هذا إن كانت من على هذه الشاكلة يعدونها أميرة، وبالمقابل حظيت بطبق من صنف واحد وردئ ولكن ملعقتى كانت أول من يدهسه، ثم صرت قاتلة أو مصححه لوضع خاطئ، فسكينى لم ينغرس سوى بجثة كانت تدعى أن لها روح، وهكذا بات ضميرى يغط فى سبات أعمق من المحيط الثائر الذى يقلنا، وبالمقابل حظيت بطاهى وبمائدة خاصة يتفنن آخر بجعلها مبهجة فاتحة لشهيتى، آخر لا يعلم أن شهيتى لم تعد مفتوحة سوى للآدميين، طهيهم على نيران الغيرة، شيهم على فحم صنعه أطماع سابقيهم، وأما شرابى المفضل فدمائهم التى تفور من كيدهم بعضهم البعض، وهو ما جعلنى على يقين من استمراريتى، وأزاح عنى عبء القلق تجاه العودة.
رحلة أعلنت بلا سابق إنذار عن توقفها، فى لحظة أرتدت طفلة لا يمكن التفاوض معها، أستعادت جدائلها وقصتها المرصوصة على جبين بكر، تلاشت الصافرات المزعجة ليحل محلها صوت قديم خالى من إضافات الأيام، صوت مكسو ببراعم خضراء تتهيأ للنمو ولكن بأرض أخرى، لاتزال صالحة للإنبات، حيث لم تسمح سوى بإحتضان الطيب وما دون ذلك لفظته، أطعمت الريح ذراته بعدما تكالبتا الشمس والهواء عليه، فصنع متاهة لتدوير الخبيث يؤخر النهاية، وهو ما قد يمنح فرصة لتعمل قوارب النجاة، أو حتى لظهور قشة تضحى بمثابة قبلة حياة.
رحلة لم يكن ممكناً ألا أخوضها، كنت سأسير على هدى خطواتها المرسومة حتى ولو لم يكن لى قدمان، سأسيرها ولو بالزحف على بطنى حتى ينسلخ عنها الجلد، أو محمولة على ظهر أياً كان سلحفاة أو أرنب، السرعة عامل لا يعول عليه مع سفينة لن تغادر بدونك، والعجلة لن تغير من ترتيب الموانئ التى ستمر بها، فهى تحتفظ بصور كل الوجوه التى ستأتيها، تنتظرها كى تمنح كلاً منها صندوقه، والذى لم تطلع عليه قبلاً، تمنحه إياه بأقفاله وأختامه، وتتلصص عليه حين يفتحه من حيث لا يدرى، حيث لم يكن ممكناً ألا يفتحه.