ليلة من ألف ليلة ضائعة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

باقٍ من الزمن سبعة  أيام وأعود أدراجي: موظفة درجة ثالثة بوزارة الثقافة تعمل بشكل أساسي في شارع طلعت حرب بوسط البلد. بعد أسبوع  لا مزيد من الورديات الليلية بمطار القاهرة الدولي، لن يكون هناك مجال لتأمل الطائرات الراحلة والقادمة وتمني لو كنت داخل إحداها قاصدة سَفرًا طويلًا، وربما بعد تلك الأيام المعدودات لن أعاود رؤيته من جديد، بدأت حكايتي القصيرة معه في رمضان الماضي، تحديدا بعد الإفطار في الوردية المسائية، كانت الحادية عشر مساءا بتوقيت القاهرة ربما حينما أنهيت عملي في قرية البضائع وهَمَمت بالانصراف. فتاة وحيدة وسط القرية الآهلة بالعاملين الذكور وضباط الأمن وعساكره. تُمكِّنك تلك الأجواء من تشمم رائحة أي تاء بين المارة -مربوطة كانت أم مفتوحة- نظرا لندرة الحدث. قرون استشعار الاختلاف الجنسي أخالها فطرية وكذلك ما يتعارف منها فيأتلف أو يتنافر فيختلف

 يُشبه الشاب نمطا يجذبني ولا مجال لمعرفة سبب واضح لتلك الجاذبية:  نحيف القوام، طويل نوعا، أسمر البشرة، نظيف الثياب ولا تظهر عليه وعثاء السفر أو متاعب العمل، تعانقه سلسلة فضية بدت لي من بعيد نظرا لحجمها. وبينما أجمع أغراضي للمرواح كالطالب البليد عَرَض علي اصطحابي بالسيارة إلى محطة الحافلات والتي جرت العادة أن أتمشى إليها مسيرة عشرة دقائق. تذكرت إحدى نصائح زميلتي التي انتهت فترة انتدابها قبلي بأنه يمكنني أن أقبل توصيلة كهذه إن عرض أحد الزملاء أخذي في سكته ليلا. قبلت العَرض وترجلنا سويا حتى مدخل القرية وصولا للسيارة. لفت انتباهي حديثه لي بضمير المُخَاطب المذكر:

– إنت بتمشي لوحدك ليه متأخر كده؟ لو حد مننا خارج قل له يوصلك معاه.

ليس الضمير فقط ما راعني وقتها بل أيضا ما يشبه اللعثمة أو ثِقل اللسان حال الحديث. ربما يرجع هذا لمشكلة في التهجي أو التخاطب أو ما شابه ولكن لا أعلم لِمَ ربطت ذلك بتاريخ غامض للفتى، في سيناريو مصري نسجه خيالي المريض.

 وصلنا الفضاء الواسع حيث السيارات هاجعة في الليلة الرمضانية، عادة لا أهتم بأسماء السيارات وأنواعها ولكن ما ميزته وقتها أنها سيارة عالية حال الركوب وقد تكون ذات طراز عملي يتوافق مع العمل في مثل هذه الأماكن. رغم الظلام أيضا بدت لي أنيقة من الداخل ومُريحة وكانت بالطبع مُكيفة. فور ركوبي تزايد معدل الأدرينالين في جسدي وأحسست بأجراس أماني تنبض متسارعة، كان جو السيارة حميميا نوعا أو هكذا شعرت حينما غَلَّق الأبواب وكانت الشبابيك كذلك بدورها. بعفوية طلبت منه فتح الزجاج وإغلاق التكييف لحساسية جيوبي الأنفية. استشعر السبب الأقوى بمفرده واستجاب بابتسامة متفهمة واستدرك قائلا: وأنا كمان مش بحب التكييف.

 

مرت الدقائق القليلة حتى موقف الباصات دهرا بسيناريوهات سوداوية جمة لم تتجسد لحسن الحظ. وفور وصولنا سلمت عليه بيدي امتنانا لانتفاء تحوله أثناء رحلتنا القصيرة لأحد المستذئبين أو المستكلبين المحتملين.

– فرصة سعيدة، أنا اسمى أسماء، قلت لي اسمك إيه أسفة؟

– حسام.

– فرصة سعيدة يا حسام.

(2)

لمحته يوما آخر بعدها حال مغادرتي ولكن أسرعت على استحياء كي لا أعطله عن عمله. وربما كان هناك لقاء ثالث وصامت بعدها وكأن شيئا لم يكن.

(3)

اليوم رأيته جالسا على المكتب الذي يستضيفونني فيه حال وصولي. جَمع أوراقه  فور اقترابي ليُجلسني وانصرف، أنهيت عملي الروتيني الرتيب فلم أجده ولكنني تذكرت لطفه السابق فجمعت حاجياتي بدوري ومشيت. بعد ضبط ساوند كلاود على الأغنية التي ستنادمني في الطُرق الظلماء واصلت المسير لمنتصف الطريق المؤدي للموقف حيث مبني ال DHL  بعد المرور على كافيتريا “كواليتي” ومبنى الرقابة على الصادرات والواردات، لم يتوقف تفكيري وقتها في الطريق الطويل وظهري الموجوع من المشاوير وإرهاقها لعظامي وفقراتها. وإذا به يقف منتظرا بالسيارة في مواجهتي:

– عمَّال أناديك وإنت مش سامع ومكمل في طريقك ولا أنت هنا!.

– مش كنت تقول يا حسام إنك خارج بالعربية، ده أنا تعبانة أساسا.

ركبت دون رهبة هذه المرة وكان الشباك مفتوحا دون طلب سابق. لا أعلم السبب ولكني أخبرته بانصرافي المُبكر اليوم لأن فرح أخي غدا ولم أشترِ فستانا بعد، وأنني في إجازة الأسبوع القادم. وذكر لي بدوره  قدومه في الأيام السابقة بسكوتر أخيه لذا لم يتسنى له العزم علي توصيلي. شرح لي كيف أنه سكوتر مختلف بثلاث عجلات ومريح و ممتع ويمكنني تجربته يوما. شكرته مجددا حال الوصول ونزلت من السيارة منشكحة ومتخيلة أنني امتطي صهوة السكوتر يوما ما وبالطبع تكتمل غنائية الصورة بمشهد يتماشي من رومانتيكية برج السرطان بإلقاء حجاب رأسي في الهواء ليتطاير أُسوة بشعري المطلوق وكأنها الدنيا على جناح يمامة. وربما استلزمت الصورة أيضا أن أُحيط خصره بكلتا يدي تفاديا للسرعة ولاستشعار الأمان.

 

(4)

 باقٍ من الزمن سبعة أيام وأعود أدراجي، ووسط انسيابية حبات الساعة الرملية الأخيرة لمدة انتدابي أراه مجددا، الذاكرة تعاجلني ببعض المشاهد التي تخص كيف للمرء أن ينجذب لنوع من البشر دون غيره، كيف يتيح لهم الزمن أن يشكلوا جزءا من عالمنا الصغير ويملؤن فراغاته لوقت معلوم، كيف أن لكل منا وعاء يحمل فيه حُب الأشخاص، وتختلف الأوعية بسعتها المختلفة وبمدد صلاحيتها وبقابليتها لإعادة التصنيع والاستخدام. المهم أنني فرغت من وضع أختامي الزرقاء كأي موظفة تحمل ختما يبرهن وجودها وماهيته بشكل ما، ألقيت سلامي على الجَمع الذكوري المعتاد وانصرفت. في الطريق أيضا مع النغمات  المختارة لصُحبتي وسماعات هاتفي المحمول في أذني واصل خيط الأفكار متسلسلا حتى أبصرته من جديد ولكن اليوم بالسكوتر سالف الذكر.

– قلت لازم أوريه لك. بُص (نزل من عليه ليفرجني ولأطمئن)، هتركب هنا وهتكون القعدة مريحة خالص.

ما زال يناديني كزميلٍ له لا كامرأة وإن كان يظن أن ذلك أكثر احترامًا، ضحكت خجلاً وفرحا لتحقق أحد رغبات المراهقة وإن كانت في غير أوانها. داريت خجلي  بشكره على هذه اللفتة اللطيفة: 

– أنا أحب جدا طبعا أجربه بس للأسف مش هينفع، بس أحب أصوره للذكرى.

رد بإحباط مستتر: مش هتعرف؟

– معلش بقى بس أنا مبسوطة إني شفته، شكرا بجد، وأنا مبسوطة.

ركب من جديد وانطلق أمامي وواصلت طريقي مترجلة ووحيدة على نغمات أغنية فيلم “لالا لاند” الخاصة بالليلة الودودة الضائعة. كنت سعيدة طبعا من وقع الفرصة التي أضعتها للتو على نفسي وتذكرت أحد جُمل مسرحية “سُك على بناتك” الأثيرة والتي تُداعب بها الفتيات في سياقات مشابهة:

– كنتي سيبيه يمسكها يا فوزية يمكن تطرى في إيده!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 

 كاتبة ومترجمة مصريّة 

مقالات من نفس القسم