لونُ الموت

عبد الهادي المهادي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الهادي المهادي

صرخةٌ حادة خلعتني من مرقدي. هرولتُ نازلا إلى حيث يستلقي والدي دون حركة أو وعي، وجدتُ أختي الكبرى مفترشة الأرض تنوح بكلام فهمتُ منه أنها لم تكن تبكي قَدَرَ والدٍ يعيش الرّمق الأخير من حياته، بل كانت تنعي ـ مثلي تماما ـ عزيزا لم تشبع منه. كان مغمض العينين تماما، وصدره يعلو وينخفض بسرعة على حشرجة خفيفة. لمستُ أصابع قدميه، مازالتا دافئتين. شددتُ على كفّه، لم يستجب. البارحة كان يقبض بقوة على كلّ يد تمتدّ إليه ويرفض التّخلي عنها، أما هذا الصباح فقد سبقه إلى الآخرة كلّ شيء ما عدا تنفّس متسارع من فم لا يسدّه إلا بمشقّة كبيرة لبلع حبّات من ماء زمزم كنّا نقطّرها له بملعقة صغيرة لترطيب حلقه.  

جلستُ بقربه إلى حدود الظهر، قرأتُ على مسامعه بصوت متهدّج سورا وآيات من القرآن الكريم، ثم خرجتُ إلى السوق لأقضي بعض المصالح الخفيفة. يا إلهي؛ لا أحد يهتمّ لمرض والدي، بل لا أحد يعرف!  الكلّ منشغل إما بالبيع أو بالشراء. أنظرُ إلى الوجوه وأتفحّصها لعلّي أقرأ تعاطفا، ولو باهتا، مع حزني، ولكن الناس جميعهم كانوا في مشاغلهم دائخين. كان رمضان قد انتصفت أيامه تقريبا، والكلّ غارق في التّبضّع.

انعزلتُ في مكتبتي الصغيرة، وجلستُ ـ كعادتي ـ أحاول تقييد حوادث الصباح، حتى لا تنفلت مني أحاسيس اللحظة وحرارتها، بدأت كتابةَ هذا البَوْح، وعندما وصلتُ إلى نهاية الأسطر الأولى منه، والتي أختمها بقولي: ” أما هذا الصباح فقد سبقه إلى الآخرة كلّ شيء ما عدا تنفّس متسارع من فم لا يسدّه إلا بمشقّة كبيرة لبلع قطرات من ماء زمزم كنّا نقطّرها له بملعقة صغيرة لترطيب حلقه”، نادت عليّ والدتي بطريقة علمت من خلالها أن لحظة الوداع قد أزفت. وصلتُ، وكأنما انبثقتُ أمام والدي فجأة، كان بالفعل يودّع؛ شيئا فشيئا هدأ صدره، وضعف تنفسه، ثمّ غرغر. وأمام أعين أغلب إخوته وأبنائه والكثير من أحفاده أسلم الروح، بينما وقف أحدنا يسمّعه الشهادتين اللتين كثيرا ما رددهما أثناء مرضه.

وها أنا أعود، بعد ثلاثة أيام من وفاة والدي، لأكمل تسجيل ما بدأته قبيل وفاته بلُحَيْظات، وها أنا أخيرا أتذوق طعم الفجيعة، ولا أكتفي فقط بالقراءة عنها!   

صبرٌ عجيب جلّلنا؛ الكلّ يشهق ويدمع، ولكن لا صوت علا أكثر مما يجب، سوى نحيب أختي الكبرى التي ارتفع وتشنّج. كانت كمن أصابها مسّ؛ تُقبّل يديه وقدميه، وتشمّه، وتضع خديها على مواضع شتى من جسمه، وكان ذلك منها متوقعا.

تحسّستُ كفّه اليمنى، مازالت دافئة، ولكن دبيب الحياة كان قد غادر عروقها. وما هي سوى طرفة قليلة حتّى لوّنت صفرة الموت كل جسده. جمَعنا فكّه الأسفل إلى رأسه، أما عينيه فلم تكونا تحتاجان لإسدال، فقد انطفأتا منذ ظُهر البارحة، لينكشف المشهد عن وجه هادئ وباسِم، ابتسامة بقيت مرسومة على محياه إلى أن واراها الكفن ظهر الغد.

طافت علينا والدتنا تُصبّرنا الواحد تلوَ الآخر، لم تبك حينها، وقفت بيننا شامخة كعادتها، ولكنها فقدت الشيء الكثير من شكيمتها صباح الغد عندما وجدتها مستلقية بجانبه على الأرض، لم أعرف ما الذي كانت تناجيه به، لأني احترمتُ خصوصيتها هذه وانسحبتُ وأنا أمسح عبرات سرعان ما انسكبت من عيني. وفي لحظة خروج جسد والدي محمولا على الأكتاف نحو مسجد الحي انهارت والدتي وخرجت خلفه باكية تودّعه إلى خارج باب البيت.

صلّينا الظهر، وكان الجامع غاصا بالمصلّين، من أهل الحيّ ومن أصدقائنا الذين تقاطروا لعزائنا، ثم نادى الإمام: “صلاة الجنازة يرحمكم الله، جنازة رجل”. بعد التكبيرة الرابعة، كان دعائي بسيطا: اللهم ألحقني بوالدي مسلما، واجعلني معه غدا يوم القيامة من الأخلّاء على سرر متقابلين، وأعوذ بك اللهم أن أقْدِمَ عليه وأجده ينتظرني للحساب”.

عدتُ من المقبرة وأنا أتهادى في الطريق، وقد امتلأ داخلي بعاطفتين تبدوان في الظاهر متناقضتين: حزن واستبشار هو بالفرح أشبه.

 ـ أما الحزن فمفهوم، فما بالُ الفرح؟ سألني صديقي جمال مستغربا عندما كاشفته بهذا الإحساس، مساء، وهو جالس معي ـ دون أن يدري ـ في نفس الغرفة التي شهدت، صباحا، غسل جسد والدي.

من طبيعتنا أن نفتّش عن “العلامات”، وقد تداعى منها عليّ في هذه اللحظة ما سرّ قلبي وأفرحه؛ أن الوالد الآن في مستقرّ رحمة الله بخير وفي خير.

 

 

مقالات من نفس القسم