لاوعي ماريا

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سوسن سلامة*

 ( 1 )

ماريا فيرارا، برتغالية الأصول، فرنسية الجنسية، لها من العمر ثمان وستون سنة، صغيرة الطول وقسمات الوجه والجسم، وذات سحنة بيضاء صافية وشعر أسود أملس وقصير.

ذات سلوك بريء كبراءة الأطفال. تستيقظ باكرًا، وبسكون هادئ تقضي وقتاً ليس بالقصير في ترتيب سريرها، وتحضير ملابس يومها الجديد ثم تذهب لأخذ (دوشها) الصباحي، في الوقت الذي تسألني يومياً، وبكل لطف وتهذيب، وقبل دخول الحمام.. حتى بات سؤالها كمن اعتاد شرب فنجان قهوة قبل الفطور:

 ـ لو سمحت، هل لي بمعرفة أية منشفة لتجفيف شعري وأيّها لتجفيف جسمي؟

وأنا أجيبها وبكل سرور ودون تساؤل المستغرب..!

خلال إقامتي معها عرفت الكثير عن حياتها؛

ولدت ماريا في البرتغال، فتاة جميلة، مدللة، وحيدة، ومن أسرة محافظة على جمال الأخلاق. وبعد أن أفقدتها الحرب العالمية الثانية والدها، غدت والدتها كل حياتها.

كانت “باليرينا” ومصممة أزياء، لذلك بدأت بدعم موهبتها بالدراسة الأكاديمية الجامعية، ولكن قدرها ومساوئ الصدف، عرفاها إلى شاب فرنسي، يكبرها أضعافا مضاعفة بخصال الكذب الأخلاقي، واستطاع أن يغرقها في زيف الحب حتى العشق .!

 ( 2 )

……. هربت معه إلى باريس دون إخبار من كانت الأهم في حياتها، وتركت كل ما أرادت تحقيقه من أحلام قديمة، لتكون مع أوهام ذلك العشق..!

معاناتها اللاحقة والتي صدمت تنبؤات مشاعرها، كانت في استحالة ممارسة طقوس سعادة كاذبة، فلقد عاشت معه زمنا لم تعتد كربه!.

لم تجد ماريا ما تأكله، إلا قمامة دفعها جوعها إلى قبول تذوقها! كانت تستحم حين تجد فرصة نادرة في حمامات المطاعم، مستخدمة وبسرعة السارق، لتنظيف شعرها ووجهها أحياناً، وما تبقى من أقسام جسمها أحيانا أخرى، مستخدمة مغاسل حماماتها التي كانت تدخلها خلسة، في حين كان سريرها مكاناً ضيقاً من أرصفة الشوارع والحدائق العامة أو الحانات الساقطة والتي دفعت فواتيرها من طهارة جسدها ولا وعيها، إلى أن جمعها القدر ومن جديد بشابة من عائلة ميسورة الحال، تبحث عن فتاة يمكنها الاعتناء بوالدتها المريضة أثناء عملها وغيابها وتغيبها القسري، وهكذا رحبت ماريا بالفكرة دون جدل أو تردد مشروط، لكنها استطاعت بصدقها المحب واهتمامها الأنيق، أن تكسب ثقة العائلة بعد مضي أيام قليلة، فكان أن أعطتها راتباً شهرياً لائقاً، ومنزلا صغيرًا  في حديقة الفيلا لإنقاذ بقايا إنسان أصيل على حافة الانهيار..!

 ( 3 )

 ….. كانت ماريا دائمة التحدث، وبحزن دامع، عن أمها وعن هداياها عندما كانت في البرتغال، فكل قميص نوم ترتديه مساء، هو واحد من تلك الهدايا النفيسة..!

لديها ولدان : ابنة لطيفة ومطيعة، سعادتها هي إرضاؤها، وابن مشاكس متمرد بقسوة، لا يهتم إلا بأنانيته..

أما زوجها فقد توفي و… فقط !…..

لم أمارس فضولي المزعج لمعرفة المزيد عن تفاصيل ألمها.. كان لاوعيها الحزين المختبئ هو من يخبرني حقيقة هذا الكائن (اللاوعي)، والذي كان يحدثني بلغته الأم (البرتغالية) مستخدما كل الإيماءات.. فقد أصبحتُ أدرك المعنى من قسمات وجهها وحركات يديها وأيقنتُ عفوية سلوكها المفرط تهذيباً.. أيقنت بعد قراءتي الدقيقة أن لاوعيها هو إنسان لطيف، محب، بريء، نقي، يتحول إلى كل سلوك ومعاني الشر وقسماته، إذا انتُهكتْ حدود شخصيته ومبادئه الأصيلة..

أحبتني بعد أن تأكدت بحدسها أني أحبها، حتى أنها وكلتْ نفسَها محاميَاً دفاعٍ عني، والذي أخذ يحذر كل شخصٍ يؤذيني بنظرة عتبٍ مهينة، وبكل إيحاءات الإنذار قائلا:  انتبه جيداً.. رغم أني لا أحب العرب، ولكنها وحيدة وغريبة هنا، وهي تحبني ولا تؤذيني، أو تزعجني، لذلك أنا معها لحمايتها وبكل قوتي..!

كان لاوعيها يحدثني بالبرتغالية، رغما عن وعيها الذي يعرف تماماً أن لغتي هي العربية والفرنسية.

 ( 4 )

…… كانت ماريا مدمنة نظافة وحلويات في آن واحد، فهي لا تمل من تنظيف كل ركن من أركان الغرفة وكل زاوية غير مكتشفة، وفي كل الأوقات على الرغم من قناعتها بأنها ستغادرني قريباً لأن هناك من ينتظر عودتها.

أما إدمانها على الحلويات، فقد تأكدت منه بعد اكتشافي أنها تصاب بنوبة عصبية هستيرية، عندما تنتهي مؤنها من الشوكولا والبونبون..! حتى إنها وعندما أضاعت مفتاح خزانتها اتهمتني بسرقته، من أجل الوصول إلى تلك المؤن، ولكني لم أعط ذلك أهمية عظمى، لمعرفتي بحقيقة ذلك الإدمان وأعراضه، بل على العكس فقد أصبح مفتاح هدوئها في جعبتي وأصبحت أحافظ عليه بشراء المزيد من تلك المؤن.

عندما أصرخ أو أبكي من الألم، تقول لي وتكرر ذلك وبنفاد صبر:

 ـ أفهم ألمك ولا أستطيع أن أكون أنت، ولكن عليك بالصبر وليس لدي المزيد ….!

في صباح أحد الأيام وبعد كل الطقوس الصباحية الروتينية، دخلتْ للاستحمام ولكنها نسيت إغلاق الباب.. انتظرتُ سماع صوت تدفق مياه الدوش… دون فائدة، ولكن…؟ يالهول مارأته عينايَ بعد ثباتهما باتجاهها ..!

( 5 )

وقفت ماريا أمام حوض المغسلة وهي عارية من كل شيء، حتى من إحساسها بوجودي، ثم فتحت صنبور المياه، وبدأت بملء يديها لغسل شعرها – وبسرعة قصوى- من رغوة الصابون (الشامبو) التي ظهرت بعد أن بللته وفركته، وبالطريقة نفسها وبالسرعة نفسها.. انتهت من شعرها لتنتقل إلى جسمها..

كنت أراقبها بتفاجؤ شاخص، يربكني حتى الخرس ولكنها.. وعندما انتهت من جسمها، وضعت قدميها في ماء كرسي التواليت، وضغطت على زر ما نسميه (السيفون)، بسعادة المنتصر الذي أنهى مهمته بنجاح، لتضع ملابسها دون أن تستخدم المناشف، والتي استفسرت عنها سابقاً ويومياً!..

أما المفارقة الغريبة والتي صعقت مفاجأتي، كانت أثناء قيامها بمهمتها، تتوعد وباللغة الفرنسية الواضحة شخصاً ما، وتهدده بالعودة إلى حضن والدتها، التي مازالت بانتظارها!….

وبسرعة المفاجأة والانتظار المشدوه، خرجتُ من الغرفة وأخبرتُ الممرضات، وشرحتُ لهن ما رأيتُ، وأنا أبكي بصراخ، في حين كانت قد لحقت بي، منتظرة انتهائي من إخبارهن، لتقترب مني أكثر، وتضع إحدي يديها فوق كتفي، ولتمسح بأصابع يدها الأخرى دمعي المنهمر، قائلة وبحزن يفيض حناناً وغضباً هادئاً وبفرنسية واضحة:

 ـ “رجاء لا تبكِ، وارأفي بعجزي تجاهك، بكاؤك يزيد بؤسي، لذلك قررت مجبرة أن أغادرك، هربا منك، رغما عني، ورغم حبي لك”.

ثم خرجتْ ودون نظرة إلى الوراء..!

أما أنا فقد عرفت لاحقا من ابنتها، أنها تعاني من مرض الخرف (الزهايمر)، الذي جعل منها شخصا يتذكر أحداثا وحياة ماضية، ويعيشها مجددا، في حين أنه ينسى تفاصيل وأحداث الزمن الجديد..!

لكن

ماريا فيرارا،  ولدت في البرتغال، فتاة وحيدة جميلة، مدللة، ومن أسرة محافظة على جمال الأخلاق، وهدوء السلوك.. هذا ما قاله لي نقاء لاوعيها وما أكدته لي ابنتها..!

…………….

*  كاتبة سورية

*اللوحة للفنان أنس سلامة

مقالات من نفس القسم