كوابيس يومية

كوابيس يومية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد صفوت

بعد انتهاء مراسم الدفن رددت الأم المقولة ذاتها وهى تحتضنه باكية وبنفس نبرة ويقين الفقيد الذين تركوه منذ لحظات وحيدا فى قبره دون عشاء: "الرجال لا يتوقفون عن الركض"

 بعدها ظل يركض هارباً من القرية ، يعرف أنهم يترصدونه ، قد تنشق الحشائش تحت قدميه فجأة ليخرجوا له شاهرين الموت فى وجهه ، ربما فقاقيع الماء فى الترعة تدل على أنهم يندسون له تحت القاع ، قد يجدهم عالقين بأسلاك الضغط العالى كخفافيش متحفزة، ربما تنكروا على هيئة سرب بط ، وقد تكون عيونهم تضوى هناك عند مزلقان السكة الحديد ، فبدأ يركض ليس فى اتجاه بيت عمته لكن إلى أى مكان أخر يصلح للركض ، بوصلة الكراهية والحقد كانت تقودهم إليه , كان عليه أن يمارس تمارين الحيطة والحذر, فىكل مكان له اسم  ومهنة ، يحلق رأسه أحيانا على الزيرو ، فتبدو كإسفلت ممسوح لتوه بالماء والصابون، أحيانا يترك شعره طويلا مضفرا سارحا على ياقة قميصه من الخلف ،يبدو فى أوقات نحيفا كحطبة، بعدها يبدو ممتلئا كامل الدسم، ينتقل من لوكاندة  صغيرة فى حى شعبى إلى غرفة ما على السطوح فى حى راقى, ينام مرة فى أحد جراجات السكة الحديد وحينا  فى أحد الأضرحة كمجذوب , عاش  أياما فى أحد الأديرة كمسيحى زاهد  قبل أن تكتشف أمره راهبة  أحبته طالبة منه أن  يهربا سويا من الدير، أخذ يركض بين أشجار الليمون والصبار وهى تستحلفه بمريم المقدسة أن يأخذها معه .

دائما يتحسس بحرص كل شىء قبل أن يقترب ,يضبط إيقاع نبرة شخيره قبل أن ينام ,لا يجب أن تستقر إليته على كرسى المرحاض خوفا من أن يقفزوا من النافذة أعلى رأسه , يكتم سعاله وضراطه وإلا سمعوا صوته، تتمدد قدماه داخل الحذاء أولا، تزحف داخله ببطء، تنظر يمينا ويسارا، تتلفت خلفها ثم تعدو, ينفض ملاءة السرير قبل أن ينام خوفا أن يكونوا بين طياتها، كانوا دائما وراءه، يراهم فى وجوه الناس العادية فى الشارع، عند بائع عصير القصب، على أغلفة علب السجائر والتونة.

 ذات يوم حطموا فاترينة زجاجية لمحل ملابس حين كان يتأمل جاكيت شتوى، فانطلقوا خلفه كدمى بلاستيكية شاهرين أسلحتهم المخفية فى طيات ملابسهم، ظل يركض فى شوارع وسط  القاهرة دون وعى حتى وجد نفسه قد أوغل فى الصحراء.

خرجوا  له مرة من تفاصيل فيلم سينمائى إذ توقفت سيارة مسرعة فجأة فى حركة دائرية محدثة دويا وغبارا، لقطة كلوز أب على السيارة، زجاج فاميه غامق يخفى من بالداخل، الزجاج ينسحب لأسفل، عيون غليظة تترقب فى حقد، الأصابع تتحسس برفق الأسلحة، قبل أن يقفزوا من السيارة ليطاردوه، انسحب ناجى كشبح طائر يشق طريقه فى ظلام قاعة السينما، كما ظهروا له على مؤخرة فتاة ليل شاهرين أسلحتهم كغزاة رومانيين رافضين بكل حسم  أن يفرغ من لذته، فهب ناجى من على جسدها عاريا، يركض فى فضاء الله الفسيح دون أن يهتم  إن كان قد أخذ قضيبه معه أو تركه وحيدا مرشوقا فى  فرج الفتاة!

يندهش عندما يجدونه ثانية، شعر أنه لا يجب أن ينام واقفا طوال عمره من أجل حفنة  تعساء يرون خلاصهم فى قتله, لا يمكنه أن يعيش دائما مثل برص يرتعش على الحائط، حينها تعقبوه بوجوههم الكالحة وبملامحهم التى ظهروا بها فى كوابيسه اليومية المعتادة على أحد كبارى القاهرة، انزلق من بين أصابعهم , تأبط سور الكوبرى العتيق، احتواه النيل بترحاب مبالغ فيه وخبأه بين جنباته، سبح طويلا متدثرا بالظلام, خيل له أنهم كامنون فى الأعماق، وأنهم سيسحبونه من قدميه  إلى أسفل كتماسيح موتورة، عندما وصل إلى الجانب الأخر من النهر ارتمى بين أكوام من الحلفا والبوص وهو يرتعد, ضربته نوبة حمى  قاسية, شعر بدائرة مغلقة  من السخونة والغليان  تندفع  كحمم  من رأسه  إلى أنحاء جسده  وبالعكس, راح يهلوس باستفاقة وبوعى كامل، ينزلق من أنفه ريم وزبد أبيض وهو يعلن للخلاء المحيط  قراره المصيرى:

"ما دمتم  قد وضعتمونى على حافة القتل فلتموتوا جميعا وتهبونى الحياة، ليكن  القتل ما دمتم ترون أن القتل من أعظم اختراعات الإنسانية ، إبليس نفسه لم يضبط يوما بحوزته سكينا ملطخا بالدم ولم يجد خبراء المعامل الجنائية شعيرات من فروة رأسه بين أظافر الضحايا، لتكن محرقة إذن, نارها ليست بردا ولا سلاما عليكم بل حمما تلفح وجوهكم وتطهركم تطهيرا،  ليكن طوفانا  يعلو الجميع، لا سفينة ولا نوح ولا من كل زوجين اثنين, وعندما تبتلعكم الأرض فى قرارها المكين، تخرج الشمس من مخدعها وتشد ستائرها على الليل المظلم، ليبدأ نهار آخر، تتشكل الأشياء من جديد،  لعل الطبيعة تتلافى أخطائها السابقة هذه المرة".

ــــــــــــــــــــــ

فصل من رواية "القتلة يحتفلون بالفالنتين" – دار الحياة

مقالات من نفس القسم