عبد العزيز دياب
على استحياء أخبرني الآخرون عن جارسون في مقهى سياحي، يجيد الحكي لرواد المقهى عن أشياء غامضة لبشر انفلتوا من قبضة الطبيعة، فأمكنهم التواجد بمكانين في وقت واحد.
كل هذا لا أكترث به، فلو أنهم أخبروني عن جارسون في مقهى سياحي أو غير سياحي، لا يكتمل يومه إلا إذا صعد إلى سطح البيت، ليدرب ديوكه فنون المصارعة وبعض ألعاب بهلوانية. لو أن ديوكه أحرزوا تقدمًا في هذا المجال، لكان لذلك معنى كبيرًا.
تركوني أشرب سيجارتي، وأنا أحاول استعادة وظيفتي التي نسيتها هذه اللحظة، هذه اللحظة بالذات، شفطة من كوب الشاي المركون بعناية على سياج يحيط بسطح البيت، ويسمح لديوكي بممارسة كل فنون المصارعة في الثلث الأخير من النهار.
ثرثرة النساء على أسطح البيوت المجاورة لي ذكرتني بأنني محامي، ذَكَرَتْ واحدة تقذف بقايا خبز لعنزات ممسوسات كلمة القاضي أكثر من مرة:
“القاضي أجَّلَ القضية”
“والمحامي هو الآخر رفع الفِزِيتا”
غَنَّتْ التي تحدثها: أبوها راضي وأنا راضي مالك أنت ومالنا يا قاضى، عرفت أنني محامي، وأن هناك في المحكمة قاضى، وأنني أحيانًا أرتاد مقاه ومطاعم سياحية هناك على الكورنيش.
شربت الشاي، أحرقت خمس سجائر، دون أن أتوصل إلى حقيقة الإيقاع الذي أسمعه في أوقات كثيرة يطبل في أذني، يغلبني النعاس في كل مرة لا أصل إلى حقيقة السيدة التي قابلتني في أحد الأزقة عندما كنت أجعل ساعدي شماعة لروب المحاماة، خاطبتني بلهجة وقحة عن بوابة حديدية تقاضيت ثمنها ولم أقم بتصنيعها، باعتباري صاحب ورشة حدادة، (مِعَلِمْ حِدادة)، ذَكَرَتْ أنها تَعَامَلَتْ معي أكثر من مرة في تصنيع حديد شبابيك وشرفات لبيتها، ولولا أنني مِعَلِمْ وفنان لما تَعَامَلْتْ مع ورشتي، لا يمكنني أن ألوم سيدة لم تَلْحَظْ روب المحاماة المعلق على ساعدي، والحقيبة في يدي، فأنا الآخر قد نسيت وظيفتي، نسيت كَسْمِي وهِنْدَامي، ورغم كل ذلك لم أسأل نفسي: هل الإيقاع الذي يطبل في أذني، من وقت لآخر، هو إيقاع مرزبة الحديد، التي يضرب بها صبياني في ورشة الحدادة دون رحمة.
لمن تكون إذًا دهاليز المحاكم، وقضايا النصب، والاتّجَار في المخدرات، قضايا الآداب، الجنح والجنايات، الدسائس والمؤامرات، تخليص القضايا دون الرجوع إلى المراجع السميكة في القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية والجرائم والمعاملات، تخليص القضايا بقيادة جيش قميء من شهود الزور، وبيع الموكلين إلى محامىِّ الخصوم.
لمن يكون كل هذا، إذا كنت فقط أفهم طبيعة النشالين، في جميع خطوط الأتوبيسات، أطرقع بظهر يدي على سقف الأتوبيس مناديا: تذاكر… تذاكر يا سادة، أسمح للأجساد أن تهرس الأجساد، أطالع ضعفهم جميعًا، أستخلص النساء وأنا على مقعدي كملك متوج، أسمح لهن بمزيد من الالتصاق بي، أسرع إلى بيتي بعد انتهاء ورديتي، معي طعام ديكة أحرزوا تقدمًا هائلا في لعبة تليق بهم، أتساءل: هل يُقَدِّرْ الآخرون فلسفة أن أبحث عن ذاتي فوق سطح بيت قديم؟
هل يظل ذلك الغموض يلازمني؟ عندما تنفك عنى شرنقة التباس ذاتي اكتشف الزمارة التي في يدي، وأنا استعرض الطاولات الأنيقة في مقهى سياحي، أحكى لرواد المقهى حكايات عن أشياء غامضة لبشر يمكنهم التواجد بمكانين في وقت واحد، ينفك أول خيط من التباس ذاتي عندما اكتشف أن الزمارة بيدي، وروب المحاماة على ذراعي، وأنا في كامل أناقتي، في زيي وهندامي.
على استحياء تحدث الآخرون عن بائع الآيس كريم، ورقص واحد منهم على أغنية عمرو دياب: آيس كريم في ديسمبر… آيس كريم في جليم، هو بائع آيس كريم جوال، ثلاجة الآيس كريم يحملها التروسيكل، فيما يقود هو التروسيكل والزمارة في يده، يجول في أزقة وشوارع الأحياء الشعبية، يتوقف أمام ورشة (حميدو) للحدادة، يطيب بخاطر امرأة تطالب المعلم صاحب الورشة بعمل بوابة حديدية تقاضى ثمنها، يمنحها بسكوتة آيس كريم في ديسمبر آيس كريم في جليم، يكمل جولته في الشوارع والأزقة، يسمح لكمساري (عبد المنعم رياض- عين شمس) العائد إلى بيته بالركوب في صندوق التروسيكل، قبل أن يغنيان أغنية “عمرو دياب” ويمنحه بسكوتة الآيس كريم، يسأله عن المرأة التي سمح لها أن تلتصق به، وهى تحدثه عن قضية الفصل التعسفي لزوجها من الشركة التي يعمل بها، عن أتعاب المحامين الباهظة.
والله كنت أحب الآيس كريم، لكن البائع الجوال، تآمر علىَّ، كل يوم يقيم احتفالية في الشارع بمعزوفة خشنة، شرسة، مجنونة لزمارة يعلن بها عن نفسه، عن الآيس كريم، فتختلط القضايا، تذهب مذكرات المشاجرات إلى قضايا الشيكات، وتذهب مذكرات الشيكات إلى قضايا الأحوال الشخصية، تسقط مذكرات المخدرات، تزحف على بطنها، تغادر المكتب دون رجعة.
لم أعد أحب الآيس كريم، وعلى استحياء أخبرني الآخرون أنهم شاهدوني في الشوارع والأزقة، أمتطى تروسيكلا، أنادى بزمارتي على الآيس كريم وأنا أهذب نغماتها، أنَفِّى شوائبها، استخلص منها نغمة تألفها آذان المتعبين مثلى، أعود في نهاية اليوم ومعي طعامًا لديوكٍ أحرزوا تقدمًا في فنون المصارعة والألعاب البهلوانية، فاكتشفت أنني أصبحت محبوسًا في مكان غير كريم، فيما ذهب أشخاص غامضون يفتشون بيتي، عثروا على مريلة جارسون يعمل في مقهى سياحي، ويونيفورم كمساري خط (عبد المنعم رياض- عين شمس)، ومرزبة حدادة، وعدة كاتولوجات لبوابات وشبابيك وأسيجة حديدية، وروب محاماه، وعدة صور لحلقات مصارعة الديوك، وتم التصريح بدفن جثة عُثِرَ عليها في الخلاء، جثة لبائع آيس كريم جوال، يقبض بيمينه على زمارة.