ما يحتاجه الرجال

غصون حجاج
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

غصون حجاج

الحياة لدى فادي هي المدرسة والقطة فقط.
 تُنسج البراءة في مشهد اللعب معها حين الانتهاء من واجباته المدرسية، يجري ورائها في غرفته، يلعبان معًا كما سماها “لعبة توم وجيري” حيث يجري هو منها لتجده، أو العكس ثم يعيد الكرة عشرات المرات في اليوم الواحد..
 شديد الحرص على التفوق، شديد الاهتمام بقطته “نانسي” بيضاء الشعر، من النوع “الشيرازي”، يذهب بها اليوم مع أخته “فدوى” إلى طبيب الحيوانات ليجري كشفًا بيطريًا ويحفظ مواعيد التطعيم عن ظهر قلب حتى لا تمرض نانسي كما مرضت أمه ذات يوم! وفقدها..
                                                  ***
مرض فادي ذات مرة قبل الامتحان الأخير مباشرةً في سنة ما، فرسب، كان لديه فوبيا من المرض يخافه حد التوتر والعرق، تجاهله الأب، لكن حضنته “فدوى” فهدأ.
                                                  ***

كانت السجائر بديل نصف جيد للمدرسة والقطة وفدوى، صفحات الغبار الذي يتلاشى فجأة كان يشبه كل ما أحبه فادي في فترة ما، لذلك يستنشقه ثانيةً في لعبة طفولية لا يفعلها سوى داخل البيت بالطبع، يُدخن كثيرًا بالداخل، يملأ الهواء بأنفاس مُرّة تخرج عن تهتك رئتيه، هاهو يستمتع بذلك جدًا، هدأت السجائر من أرقه حد النوم، فاستيقظ داخله الطفل القديم.
(يلعب “الاستغماية” مع أصدقاء المدرسة القدامى، يضحك فادي بشره كالمعتاد، تأتي نانسي صديقته التي يحبها كثيرًا لتخبطه على شعره البرتقالي الكثيف الذي كان يتميز به قبل الجري وتخبئة نفسها كما البقية، يضحك هو ثانيةً، كل منهم يأخذ جدارًا سميكًا ليُخبيء نفسه.
تبدأ غيمة كبيرة في الظهور. فادي لا يرى أي شيء، الوقت يمر بسرعة فائقة، والغيمة لا زالت، إذ تختفي أصوات أصحابه فجأة. فادي لا يستطيع أن يرى، أن يسمع، أن يشعر، أن يوجد مرة أخرى حتى هنا..)

ليستيقظ فزعًا.
يُفترض ألا يكون الفقد موجودًا، فهو عكسه، هو عدمية الوجود، لكن أثره ترك داخل فادي ركن أسود، يتسع إلى جوهر في لُب القلب تمامًا مع كل مرة يفقد فيها شيئًا ما..
***
كل ما يريده فادي انتباه الأب إلى أمر السجائر، حيث يشربها في البيت بكثرة، ينسى متعمدًا عقب السيجارة في مكانٍ ما هنا أو هناك، لديه رغبة ملحة في سؤال الأب لماذا لا يوبخه ولو مرة واحدة في حياته!
يتكلم الأب عن “فيروس” جديد يجتاح الصين، قد عرف فادي عنه بالطبع من جريدة “ناتشر” العليمة لكن كما العادة ترك للأب دفة الحديث.
 ليثرثر الأول عن: مؤامرة فعلها شخص هندي بأكل خنفساء أو وطواط لا يتذكر كثيرًا لكنه شيء مقرف كما يأكلون الهنود دائمًا وأبدًا تعرف يا فادي إنهم يرشون الكثير من البهارات لذلك لا يستطعمون الأكل بلهاء حتى في طعامهم يا لغباء ذلك الهندي أتخيله سمينًا بوجه قبيح يعمل لدى الموساد الهندي حتى يدمر الكوكب تعرف يا فادي لقد رأيت برنامجًا لمذيع مشهور يؤكد أن الهند هي البلد الوحيدة التي لم يمسها ذاك الفيوروس اللعين بسوء مما لا شك إنها مؤامرة بالطبع فالهند تتآمر على الصين وأمريكا حيث هما أكبر القوى الموجودة الآن على الكوكب يا لحثالة ذلك الهندي أمر مرير لا نعرف له نهاية يقولون إن دول أوروبا فرضت حظر تجوال لا نعرف ما سوف يفعلوه هنا لكن بالطبع القيادة الحكيمة ستتصرف كما المعتاد دائما أمر مفروغ منه فرئيسنا البطل يذكرني كثيرًا بجمال عبد الناصر في قوته وشموخه والقضاء على قوى الشر تعرف يا فادي إن برج القاهرة كان خازوق للأمريكان؟ حمدًا لله على وجوده حيث لولاه لكانت غرقت المركب بما فيها الحمولة ثقيلة عليه نعرف جيدًا جميعًا ذلك كلناكلنا..كلنا..
بدأ حديث الأب يخفت ببطء حتى نام فادي منه، حيث لا يستطيع الجلوس معه أكثر من نصف ساعة فهو هكذا دائمًا يثرثر في كل الموضوعات دفعة واحدة بلا انقطاع، ولا فواصل، غير قادر على التفريق بين موضوع وآخر، لا يعطي لمن أمامه فرصة لتصحيح خطأ ما أو حتى فرصة للمناقشة كان يستمتع بالحديث من طرف واحد، لذلك يُفضل فادي النوم طوال وقت وجود الأب في البيت، فادي لا يحب كثرة الكلام، وإنما كثرة المال التي يغدقها الأب كانت مفيدة نوعًا ما.
يفكر كثيرًا في فدوى التي كانت تحتضنه.. 
كان لغيابها أثر ترك علامة ما لا يستطيع تخطيها، آه لو كانت فدوى هنا! لكان كل ذلك تغير بهدوء كما كانت دائمًا فدوى الوديعة الجميلة الحالمة.
يتجاهل شعوره نحوها. ليستكمل نومه.
      ***
– أهو حلزقوم النيرد جه أهو يا حارة
قالها “شهاب” أكثرهم وسامة في “الشلة” أكثرهم ثقلًا على القلب لكن حسه الفكاهي المسروق من صفحات “الكوميكس” كان يستطيع استغلاله جيدًا في “الترويش” على بقية المجموعة فردًا فردًا والتنمر عليهم، فأصبح شعر فادي مزحة داخل “الشلة” الجديدة بعد أن كان مميزًا به في مدرسته القديمة.

يوهمهم فادي بأنه يجرب السيجارة لأول مرة، يجد لذة ذاتية في التلاعب بهم، قليلي العقول، لكنهم كانوا كثرة، فالمجموعة كبيرة، هم الأصدقاء الجدد من مدرسة “بني سويف” التي انتقل إليها في مراهقته بعد أن أمر الأب بذلك، بعدما ارتبط بمشروع بناء كوبري حديث في منطقة بني سويف، فالتزم بأوامر السيد الرئيس فورًا. السيد رئيس الشركة.
 
والقطة؟ لقد مل منها الأب فتركها جوعى في شوارع القاهرة، هكذا ببساطة.
حتى ينتقلون إلى بني سويف، إلى مدرسة جديدة بلا أصدقاء…
 وبيت جديد بلا قطة وبلا فدوى…
 ***
كيف يحضنها خلال هذه الحديدة الملونة؟ تطل فدوى عليه من مكالمة فيديو رديئة الصوت والصورة الشبكة لا تصل جيدًا إلى بيته في بني سويف. هو لا يحب تلك المكالمات السخيفة، وإنما هي تُصر عليها للاطمئنان، تُنجزها كباقي أعمال المنزل والاهتمام بالأولاد وبيتها الجديد الجميل -من وجهة نظرها- في دبي، تُعيد ترتيب البيت كثيرًا على نفس وتيرة تغيرها هي، حتى أصبح يخاف فادي من كل شيء جديد، حتى فدوى التي لا تحضنه.
                                        ***
تأكد أن الأب يتجاهل عمدًا موضوع السجائر- كما يتجاهل وجوده- حيث رآه يرمي العقب بنفسه في سلة القمامة ويتخلص منها، يُحدثُه في كل شيء عدا “فادي” فهو لا يتذكر حتى الكلية التي جاءت إليه في تنسيق الجامعات، لم يكن يطلب الكثير كما كان يتخيل الأب دومًا، وإنما أمه والمدرسة والقطة وحضن فدوى… لماذا لم يخطر بباله أن يحتضنه ولو مرة؟

أم إن الرجال لا يحتاجون إلى الأحضان؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون