عارف حمزة
يأخذ الروائي المصري وحيد الطويلة قارئه إلى عالم سردي مختلف عن عوالمه السابقة؛ فبعد روايتيه “حذاء فيلليني” (دار المتوسط 2016) و “جنازة جديدة لعماد حمدي” (دار الشروق 2019) اللتين دارتا أحداثهما في عالم الدكتاتوريات والسجون والاعتقال والتعذيب الجسدي والنفسي، يذهب الطويلة إلى عالم سردي آخر في روايته الجديدة “كاتيوشا” الصادرة عن مؤسسة “بتانة” الثقافية.
لن يكون في هذه الرواية عوالم دكتاتورية سلطوية أمنية أو عسكرية، وما يُرافق ذلك من بطش وتعذيب وترهيب جسدي ونفسي، ولكن لن يكون بإمكان وحيد الطويلة سوى التخفيف من هذه الدكتاتورية، التي ستأخذ لبوسا آخر في “كاتيوشا”، لتأخذ وجها آخر من تلك الدكتاتورية.
قرار قاتل
الأسطر الأولى من أي رواية تشكل عتبة ذكية لاستدراج القارئ للغوص والجري داخل متنها. ولطالما نتذكر افتتاحيات جيدة لروايات كبيرة كانت سببا لعدم نسيانها من قبل القارئ.
وفي الوقت الذي تعاني بعض الروايات من افتتاحيات عادية وغامضة تشكل عسرا في عملية السرد، إلى حين الوصول إلى ذلك التدفق اليسير والسلس، فإن وحيد الطويلة اختار البدء من النبع مباشرة، وليس السير بجانبه أو حوله، ليعطي السرد تدفقه المباشر منذ السطر الأول؛ الذي جاء على النحو التالي: “أحب واحدة غيرك”.
هذه الجملة التي يقولها الزوج رشيد وهو روائي مصري مشهور، لزوجته شهيرة وهي روائية وكاتبة كذلك، وهما في طريقهما إلى مطار القاهرة. حيث سيسافر الزوج إلى دبي لتقديم استقالتهما من الوظيفة هناك، والعودة نهائيا للعيش في القاهرة.
وعاش الزوجان الكاتبان لعدة سنوات في دبي، ولكن الزوج لم يستطع التأقلم، لأن رشيد “لم يكتب مئة صفحة خلال 3 سنوات، ضجر طول الوقت من تعسر الولادة، وحتى حين يلد، يلد مولودا ناقصا مشوها ثم يرمي حبل السُرّة في وجهها، هي من أتت به إلى هنا وأفقدته حبل الكتابة الطويل في مصر”.
وكانت شهيرة تريده أن يواظب على الكتابة ويبقى مشهورا، وها هي تضحي بالوظيفة في الخليج والراتب العالي من أجل زوجها.
زوجها الذي في الأمتار الأخيرة نحو المطار يقول لها هذا القرار القاتل له ولعلاقتهما. في هذا المشهد الأول يكون الراوي هو الشخص الغامض. ولكن بعد ذلك تصبح شهيرة هي الراوية. شهيرة التي انصدمت من الخبر وظنت أن زوجها يمزح أو يختبر صبرها أو حبها، ولكنه كان يتحدث بطريقة تلقائية وحقيقية “أحب صديقتك”، هكذا مباشرة. شعرت شهيرة بصدمة هائلة و”لو أن المسيح مرّ من هنا وشاهد ما حدث لبكى من أجلها”
وقال رشيد ذلك ونظر أمامه للطريق المؤدي إلى حرم المطار. وهي انفجرت كعاصفة داخل السيارة، وتعاركت معه لتنقلب بهما السيارة، ويُصاب رشيد إصابات بالغة تدخله في غيبوبة طويلة.
تصفية حسابات
بمجرد أن نطق رشيد بذلك، وربما بمجرد أن ينطق بذلك أي رجل لزوجته، أصبح خائنا، بل أصبح “خائنا أزليا”. وفي “عرف النساء يجب القضاء على الزوج أو الحبيب في أية جريمة عاطفية، إنه المجرم الأول والأخير مهما كانت دناءة الطرف الآخر”.
في غرفة العناية المشددة ستواظب شهيرة البقاء عند زوجها الخائن الغارق في الغيبوبة. ستتحدث معه طوال الوقت، وعن معنى أن يخونها رغم أنها ضحت وعملت كل شيء من أجله، ومن أجل أن يتابع كتابته وإصدار رواياته، دون التفكير بكتابة وإصدار روايتها الثانية التي تكتبها وتحكيها على مسمع حبيبها الخائن.
ورغم أن شهيرة كاتبة وقارئة وموظفة في مجال الثقافة، فإن مواقف زوجها ستعود بها إلى عالم النساء الطبيعي في الغيرة والانتقام.
ولن تنفع الثقافة ولا الشهادات في التعالي على الجرح الذي جرحه بها زوجها الكاتب الشهير. وتقول شهيرة لزوجها الغائب عن الوعي “إنت بتاعي أنا”، (ملكي). وهكذا على كل طرف أن يدافع عن هذه الملكية بشتى الوسائل، ولو بالقتل، قتل الآخر الذي يحاول زعزعة هذه الملكية، أو قتل الطرف الذي تهاون أو لم يدافع عن هذه الملكية.
رجل بقلبين
وفي أكثر من 200 صفحة، ستكون شهيرة هي الراوي الذي يبدأ تحليل تصرفات زوجها منذ سنوات لتعثر على تصرفات أو أشياء لم تنتبه لها بسبب الحب والثقة الكاملة.
وستفقد هذه الثقة كلها عندما تعرف أن زوجها صار رجلا بقلبين، “واحد لي أو كان لي، وواحد للأخريات”. وهذا ما يدفعها للشك كذلك في كل صديقاتها، فهو اعترف بأنه يحب صديقتها وليس أية امرأة. وستبدأ بالحديث عن صديقاتها واحدة واحدة حتى تصل للخائنة.
وهي بذلك تريد قلبه كاملا لها؛ لأن “المرأة تريد رجلا كاملا لوحدها، لا تشاركه حتى في أحلامه واحدة سواها، النساء يكرهن أن يحلم الرجل أساسا حتى لا تظهر أي واحدة في الحلم، حتى لو كانت بعيدة في أقصى الطرف، حتى لو كانت بشعة”
تتدفق الرواية سريعا وهي تتناول الماضي الخاص بها وبزوجها، وكذلك بمجموعة صديقاتها اللاتي أصبحن صديقاته، وسنكتشف أن رشيد كان رقيقا مع جميعهن، بل صار رجل أحلام كل واحدة منهن، ليس لأنه زير نساء، بقدر ما هو شخص مثقف ولطيف ومستمع جيد للآخرين، ولأنه كذلك يبذل أقصى جهوده لمساعدة أصدقائه وصديقاته، لدرجة أن يصبح بمثابة أب لابن واحدة من صديقاتها التي فقدت زوجها.
ستعثر شهيرة على غريمتها في النهاية، وسيعيش القارئ مشاهد متنافرة في خوف الفقد للحبيب وللصديقة، وفي خوف الوحدة وخوف الهجران. لن يكون هناك انتقام نسوي قاتل، بل ستظهر هنا شهيرة الكاتبة المثقفة، فتجري الأمور ضمن حالة مؤلمة من الرقة الباذخة.
هذه الرقة ستكون كذلك في كثير من المقاطع. فرغم كل شيء، عندما يتحتم على شهيرة ترك زوجها في المشفى والذهاب إلى البيت، أو لإنجاز شيء ما، فهي تظل تقول له “لن أغيب كثيرا يا حبيبي”.
العامية الذكية
السرد عند وحيد الطويلة، سلس ومتدفق، ويعرف كيف يدير دفة الحوارات بدقة لكي يصل القارئ إلى دواخل الشخصيات، والنظر إليها كشخصيات من لحم ودم وعواطف ومواقف.
ولأن الراوي الراوي سيكون شخصا واحدا، وهي شهيرة التي تكتب روايتها الثانية، فلن يصطدم القارئ بمستويات مختلفة من السرد، بل سيكون سردا بصوت واحد ولكن لحكايات كثيرة مثيرة ومختلفة.
يستخدم وحيد الطويلة، العديد من الكلمات والتعابير العامية، ولشدة طبيعيتها، وعدم تصنعه ذلك، لا يشعر القارئ بنفورها، بقدر ما تدل على بيئة هذه الشخصيات ونمط تفكيرها، وهو استخدام ذكي لهذه المفردات والتعابير.
رواية “كاتيوشا” هي تحليل للنساء وليست تحليلا لامرأة واحدة. ولأن كل امرأة قد تكون دولة وعالما بحد ذاتها، مختلفة تماما عن بنات جنسها الأخريات، فلا يمكن تقديم رواية سوى عن كل النساء، ويستحيل اختصار كل النساء في تحليل امرأة واحدة.
لذلك قدّم وحيد الطويلة، شخصيات نسائية مختلفة بخلفياتهن وتفكيرهن وحتى ألاعيبهن.
ورواية “كاتيوشا” باختصار تتحدث عن “الحب وفقدانه”، تدور في عالم الذكورية والأنثوية وفي عالم دكتاتورية الحب، إن جاز التعبير.