عبد الرحمن أقريش
تطل خيوط الشمس من هناك، تتوارى خلف السحب الداكنة، تطل من جديد، ننظر إليها بفرح طفولي.
تهب ريح باردة من جهة البحر، ينزل المطر مدرارا، تعصف به الريح، تذروه، يتطاير رذاذه، يضرب وجوهنا الصغيرة، تنتعش أرواحنا…
يضرب المطر بقوة، تنطفئ رائحة الأرض تدريجيا، وتحل محلها رائحة الشجر، تتمايل أشجار الكاليبتوس، توشك أن تنخلع، وبالمقابل تبدو أشجار الأركان قوية، صامدة، هادئة، تتشرب الماء بصمت.
ارتوت الأرض العطشى، وبين ثنايا الصخور تنبثق تفاصيل حياة جديدة، زعتر، إكليل، أقحوان، أشواك، نباتات برية عادت إليها الحياة.
في الخلفية بعيدا، يختفي البحر وراء الغابة الكثيفة، نسمع هديره ممزوجا بسمفونية غريبة، ريح تصفر، ذئاب تعوي، كلاب تنبح، صيحات، أغاني، أهازيج تحتفي بالمطر والحياة والخصوبة.
تخترق خيوط الماء نسيج ملابسنا، تتسرب برودتها إلى تفاصيل أجسادنا الصغيرة، نحتمي بجذع شجرة الأركان العجوز، ننحني، نتكور، نجلس القرفصاء، ننحشر في جلابيبنا الصوفية، نرتعد، ترتجف شفاهنا من شدة البرد، ولكننا كنا سعداء…
لقد عاد المطر أخيرا.
مرت سنوات طويلة، طويلة جدا.
وفي كل مرة كنت أتساءل، لم تبدو الطفولة في قريتنا سعيدة ومنطلقة رغم البؤس وقسوة الكبار؟
يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا…
في كل مرة أستحضر فيها صور الطفولة في قريتنا، أستعيد معها ذكرى هذه السعادة الممزوجة بطعم الحرمان، وأتساءل:
– أكنا سعداء فعلا؟
آنذاك، كان هذا السؤال غريبا وبدون معنى، فما يهم الأطفال، كل الأطفال، ليس السعادة، بل هي لحظات الفرح.
ألتفت جهة (حزاير) تشرق عيناه بضوء غامض، يبدو سعيدا، غائبا، ومنتشيا تماما، يقوم من مكانه، يشير بسبابته إلى الأفق جهة البحر، حيث قوس قزح يرسم أنصاف دوائر ملونة، يرفع وجهه إلى الأعلى، يتركه مكشوفا، يغسله المطر…
ثم يحدث شيء عجيب.
ينزع ملابسه المبتلة (جلبابه الوحيد)، يلوحه، مرة، مرتين، ثم يرميه بعيدا، بقي عاريا تماما، يرفع ذراعيه إلى السماء…
ظل جامدا، وقف صامتا للحظات، ثم بصوت جميل ودافئ، يدندن بداية أغنية غريبة.
(أيها الرعاة،
كفاكم أنانية،
كفاكم جحودا،
قبلوا مؤخرة الكلب (براش)
عرفانا بجميله،
فهو وحده يرد الذئب عن قطعانكم البئيسة في موسم الأمطار)
ننظر إليه،
ينظر إلينا،
يبتسم،
نبتسم،
ثم نغرق في الضحك.