قهوة مانو

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد ثروت

الفنجان أبيض، مُغبّر برشّات سوداء باهتة، جوار أذنه المائلة تنحني وردة، أمّا الطبق الصغير المربع فلونه كالسائل اللزج الذي يحويه الفنجان الساكن، وزواياه حادة. همست لنفسي: قهوة مانو معتبَرة، لا سادة ولا زيادة، أمد يدي اليسرى- التي تقبض على نصف سيجارة محترقة– رافعاً الفنجان بلطف حذِر يتناقص بعد كل رشفة. استهلكتْ قهوتي الأولى ثلاث سجائر مصرية أصيلة فانتهي النَفَس الأخير مع الرشفة النهائية كما اعتدت، كطقس أزلي لعقت الحبوب المطحونة التي أنضجتها النيران الهادئة، دعكت فلتر السيجارة الأخيرة في قاع المنفضدة البلاستيكية الرديئة، ثم أفرغتها في السلة أسفل مكتبي البارد. كانت الأفكار تعلو و تنخفض، تتضخم و تختفي، تقترب حتى أكاد أراها ثم لا أتذكر بدايتها حتى، أجمع أحلاماً و رؤى، أرى بدايات لثورات لم تقم، ثورات وُلدت وماتت في رحم من حملوها بين أرواحهم و عقولهم زمناً، أتأمل أرواحاً تلاقت وأخرى تنافرت وتعاركت وسط سيول من المعرفة والمفاجأة. لم تكن العبارات التي سجلتُها كنقاط استذكار سوى شظايا. حكاية سائق  أحرقه متظاهرون داخل سيارته لأنه استعجل تحركهم أو احتكت مقدمة سيارته بأحدهم، أو قِصة عن ولد يحمل شعراً ملفوفاً كقبعة روسية يركض بكل ما امتلك من حب للحياة نحو شرفتي، وجَمْعٌ ضخم يطارده صارخاً أن اقبضوا على المارق، تلمع عيونهم و يسيل لعابهم و هم يتخيلون ذبحه في الشارع العريض قرباناً للغاضبين الكارهين لفصيل يظنونه منتمياً له، أو ربما أتذكر لمحة قصيرة عن عجوز السبعين،الذي يرى كل حياته الفائتة كفيلم تسجيلي رديء، يرى فجأة طريقه الممتد للخلف عبثاً، فيقلب حياته كساق التفت حول رقبة صاحبها في بهلوانية مؤنسة. كلها شذرات و أرباع أفكار لم تكتمل، فلا واحدة تغريني أو أتحمس لها بروحي و دمي كما تخيلت دوماً. يلتهب دماغي و أشعر بدقات فوق كل جوانب رأسي، أحاول التوقف و البدء من جديد، فأتراجع بمقعدي الخشبي، وأضع قلمي. حين فتحت ثلاجتي التي تقبع في ركن غرفتي الضيقة، ثلاجة خربة كغرفتي "المخروبة"، كان فوق رفها الوحيد السليم طبق صغير به بقايا علبة التونة التي فتحتها سابقاً، و زجاجة " سفن أب" ممتليء ثلثها، وزجاجات مياه كثيرة، نظرت طويلاً داخل الثلاجة، ربما أكتشف شيئاً متوراياً أو مفاجأة مخبأة. ثم أغلقتها مرة واحدة.

وضعت ملاعق من البن الغامق المحوج في الكنكة النحاسية الكبرى، فوقها رذاذ من سكر أصفر، وقلتُ لي : المرة دي ع الريحة و ” عثمانلي ” في ” المج الإزاز “، ثم قلبتهم و أذبتهم بخيط رفيع من ماء الثلاجة البارد، وضعت الكنكة  فوق النار الهادئة، ثم أدخلت يدي في جيب الشورت الذي أرتديه، وأخرجت كرة بنية صغيرة طرية بحجم عقلة الاصبع، فركتها بين إصبعيّ فوق مزيج القهوة، و أخذت أقلب الخليط و أفركها فوقه حتى اختفت من بين إصبعيّ فلعقتهما، و توقعت أفكاراً جديدة ملهمة، أو حكاية بلا نهاية كما تمنيت، حين اقتربت القهوة من الفوران سكبت نصف المشروب الساخن في الكوب الزجاجي بأذنه الكبيرة ، ثم غليت المتبقي مرتين وسكبته فامتلأ الكوب. مع أول رشفة من خلطتي الجالبة للأفكار والحكايات تذكرت شخوصاً مروا بي، ظهرت أمام عينيّ وجوههم و سمعت أحاديثهم، ربما اختلطت عليّ أسماؤهم أو مناسبات لقائهم، لكن لم تغب عني أبداً أثاراً تركوها في روحي و علامات كشفوا لي بها طرقاً ومسارات لم أكن قد اختبرتها أو سلكتها أبداً. تذكرت النحيف ذا العينين الزرقاوين الباحث عن السر و كاشف النور، تذكرت القصير جالب البهجة المُخاطر و المدّثر بالتجربة مهما أنتجت أو بانت مساربها مخيفة أو باعثة للقلق، فكّرت في الجميلة، الجميلة جداً. هذه المرة لم ألعق بقايا خليطي الغامق، أكلته أكلاً، واستطالت نظرتي لسقف الحجرة متسائلاً عن مدى سريان الشقوق في اللون الأصفر الباهت، ثم انتبهت لسرحاني الممتد فوقفت بساقيّ المرتعشتين؛ مستنداً بكوعي على ظهر المقعد الذي يئز بلا أسباب واضحة، واتجهت لليمين خطوات، ثم فتحت باب شرفتي الضيقة، و ارتكنت السور الأسمنتي ناظراً لأعلى نقطة ممكنة، تسبح عيناي في درجات متابينة من الأزرق المظلم .

حين أشعلت الموقد هذه المرة، وضعت الكنكة النحاسية الصغرى مرة أخرى كخطوة واجبة للامتزاج بعقلي تماماً، كنت ملتزماً بطقس متشعب، أؤمن أن يدي لن تخط حرفاً صادقاً لو أهملت أو سَهَوت عن مرحلة أو خطوة مهما استدقت ملامحها. خبطات الصداع بدأت تعلو في أماكن مختلفة من رأسي، في بقعة باهتة من الزمن، كنت قد استنشقت تبغاً كثيراً، و ارتشفت فناجين و أكواب من القهوة، و فركت كتلة بنية بحجم إبهامي داخل عقلي و معدتي. لم تترك لي آلامي فرصة لأكمل فكرة أو أعود لخاطرة ربما تكون بذرة مثمرة، فابتلعت قرصين من ” الكيتوفان ” و قرص ” بنادول” ثم غليت كوب شاي أسود، ربما أستعيد رأسي مرة أخرى،

و أمسكت قلمي مخططاً مكعبات ثلاثية الأبعاد فوق غلاف كشكولي الملون، ثم مُجّرباً وضع سن القلم فوقأول الورقة ربما يكتب وحده ما اختزنته أصابعي من إشارات طالما أرسلها عقلي لها، كانت أصابعي تضغط القلم فيكتب كلمات لا صلة بينها، لا تكتمل عبارة أو تنجو جملة من طَرْقٍ مستمر يفتتها، فتظل كلمات متناثرة بلا رابط، تثير حواسي أكثر فأغمض عينيّ ضاغطاً جفوني في بعضها.

دقات بطيئة مرتفعة و مستمرة أخرجته فوراً من تفاصيله. كان صديقه الأقرب لروحه خلف باب ” المخروبة “  مستعداً تماماً للاستمتاع بحكايته الجديدة، مبتسماً في وجهه تُظهر عينيه شوقاً لرؤية ملهمة و حَكْي طيب، لكن الصديق حين يتأمل عينيه لحظة يستوعب ما يدور في ذهنه مرة واحدة، فيوغل معه في نقاش بلا رابط علّهما يصلان سوياً شاطئاً يحمل فكرة مميزة أو حكاية لم تُحك بعد، كان صديقه يبدأ باستفهام لا ينتظر إجابته، بل يجيب حالاً على نفسه منتظراً منه استيعاباً لأسئلة أخرى بلا اجابات. بدأ صديقه يوسع المسافات بين كلماته قليلاً تاركاً له فرصة عزف الحالة التي تمر به و يمر بها، كان الصديق يملأ الملعقة حتى يعلوها جبل صغير من البن أو السكر، ثم يمزجهما بالماء بسرعة و هو ينظر نحوه منصتاً لما يهذي به من أحوال متناقضة. قطعت عباراته المتناثرة وقفة طويلة كانا ينظران فيها لبعضهما و يضحكان، ثم بدأا يغنيان سوياً بنغمة متسقة ” بانو بانو بانو .. في القهوة المانو  “،  يؤرجحان جسديهما و يميلان برؤوسهما في كل اتجاه. استقرا قليلاً يلهثان و دموع مختلطة بضحكات بلا معنى تغسل عيونهما. التفتَ مرة أخرى لملاحظات سجلها قبلاً، و قرر أن يحكي عن سائق التاكسي.  كان السائق ملاكاً طيباً ينشر سلاماً حوله، أو كان السائق عنيفاً جداً يكره الآخرين،  هذا السائق الذي نعرفه أو لا نعرفه، أحرقه المتظاهرون، كان شخصاً واحداً بأية حال وسط مجموعة كبيرة، و هذا سبب كاف يمنع مهاجمته. و بما أننا متأكدون أنه كان إنساناً، و حياً، فهذا سبب آخر لعدم ذبحه أو حرقه.

 ألصقتُ قصاصتين قديميتن أعلى الصفحة، كانت الأولى تحمل تاريخاً قريباً بمقياس ما، كانت آثار هذا التاريخ قد زالت، لكنها لم تنتهي تماماً، في السابع عشر من شهر ما، و سنة ما بعد ميلاد المسيح العظيم، كان المانشيت الأسود يتوسط الصفحة الأولى  لجريدة يومية معارضة في عددها المرقم، ( .. يذبحون سائق تاكسي و يمثلون بجثته و يحرقون سيارته )، كان عنواناً يزيد رغبة الدم و يجنح لخيال يوقن أن انتصاره التام لا يتم سوى بإنهاء الخصم كليةً. القصاصة الأخرى من جريدة يومية حكومية، وضعت عنواناً أنها تنشر فيديو على موقعها الالكتروني  لذبح سائق تاكسي على يد المجموعة المتمردة في عددها يوم الثلاثاء الأسود من نفس الشهر من نفس السنة بالتأكيد، و لم يكن هناك فيديو بعد أن بحثت عنه كثيراً – كما سجلت في ملاحظتي – . في تلك اللحظات المنسية بالذات، تلك اللحظات التي اختصرتها الصحف في عنوان عريض مثير للدماء، كنت أعبر متأملاً شكلاً بشرياً ممتداً  حتى بداية شارع الحادثة المؤلمة، كنت ساخطاً لتعطيلهم مسار السيارات و العابرين، تلعنهم شفتيّ الصامتتين خوفاً من انتقام أو سوء فهم متوقع في أي لحظة، امتدت عيناي للأمام فأوقفتها نيران ترتفع للأعلى لا أعلم مصدرها و لا سببها. كان صراخ و كانت طلقات متقطعة و نيران عالية، كلها مشاهد مألوفة آنذاك، فأكملت طريقي متمتماً بأدعية مختلطة أطلب عوناً في العبور. عبرت دون فضول لمعرفة الحدث، وصلت الميدان القريب خلال وقت معقول، الميدان الذي شهد لحظات التحول و الهزيمة و الانتصار، لحظات المرارة و الأرواح التي علقت في المنتصف، لحظات الحلم

و الأمل المجسد في الجرافيتي الذي يغطي كل الجدران المحيطة صارخاً باللحظة، الأمل المجسد في الأطفال الباحثين عن المعنى، كانت أعداد رافضي الجماعة الحاكمة تتناقص حيث مكانها الأثير، رغم اتحاد كل  الفصائل التي تناحرت سابقاً، مؤثرين انسحاباً تكتيكياً ليوم منتظر.

 حين حاولت الاسترخاء في غرفتي الكابية ،كانت العناوين تندفع من حولي من كل منفذ معروف أو مجهول، تحكي عن المذبوح الذي رفع علامة النصر وسط جموع ترفض نصراً يُنهي وجودها، و كان والد الضحية يطلب ثأراً حمّله الجميع. توقفت عن التفكير و التذكر فقد تجمد عقلي هنا ،الحكاية تحمل دماءً لا أتحملها، الحادثة تُذكرني بأيام و سنوات أجبرت نفسي على نسيانها، لا أحب الخوض في تفاصيلها أبداً، لقد رأيت ما رأيت، فلتستمر أو فلتنتهي لن أفكر في ذلك أبداً.

.بدأ يُبعده عقله عن الحادثة المظلمة، و يرسله لحكايا أخرى. حكاية الولد ذو الشعر الملفوف كقبعة روسية الذي يجري بساقيه و ذراعيه و روحه، الجمْعٌ الضخم يطارده بعيون متقدة و أذرعة تسبق أجسادها، حاصروه تحت الشرفة تماماً، بينما كان هو يدخن سيجارته المُعدّة بروية، كان في حالة مزاجية مبهجة، يستنشق نفساً عميقاً ثم يخرجه هادئاً ليناً، و هو ينظر لهم يضربون الفتى بكل ما يملكونه أو يستحوذون عليه، بعصيّ

و قبضات و ركلات غاضبة، أحدهم يرفع ” مفكّاً ” و يهدد بتصفية عين الفتى،  يُخرج النَفَس متقطعاً رفيعاً مستمتعاً به لأقصى درجة و صوت الفتى المرعوب يقسم صارخاً أنه ” زيه زيهم .. شخص عادي “، يلتفت للخلف ساحباً باب الشرفة خلفه، مكملاً سيجارته في ركن الحمّام المنزوي آخر ” المخروبة ” الضيقة. كان الولد محاطاً برجال و عجائز و أطفال كل منهم يملك سبباً لعجن الولد و فرده، القليل من حضر السباق من بدايته، أما الباقيين فعدوا مع العدائيين، و هتفوا مع الهاتفين، حين حاصروه تحت الشرفة كان منهاراً، ضاع نَفَسُه و راحت روحه، كانت الحروف متناثرة و الكلمات مقطعة، الأيادي تحيط رقبته و تقبض شعره الكثيف، قبضات تلكم ظهره و أخرى تشد قميصه أو تغرس أظافرها في لحمه، بينما كان كف عظمي ناتيء خلفه، يتحسسه لا كالآخرين، يعصره عصراً من الخلف بحدة أرعبته، صاحب اليد هو من مد ذراعه الأخرى ليحيطه مبعداً الموغلين في جسده، كان احتضاناً أنقذه من قتل مؤكد، لكن التصاق العجوز ذو اللحية الخفيفة

و العينين اللامعتين بظهره و رجليه أفزعه، كان الرجل يصرخ في الجميع و هو يحوي الفتى  بجسده، يبعدهم و يقبضه. زمن طويل مظلم مضى بطيئاً، و حين اتضح المشهد و الشاهد، اندفعت المرأة التي تبيع السمن أسفل شرفتي تجدف بذراعيها وسط الدائرة المغلقة، كانت تجاهد بجسد ثقيل و روح مُلحّة نحو الولد الملتف كجنين أُخرج من رحم أمه ليحيطه كائن رخوي ناتيء حوله ضحكات و صراخ لا ينقطعان، أبعدت العجوز اللاصق بقوة اكتسبتها من حلب البهائم و حمل برطمانات السمنة مسافات، أوقعته أرضاً فضحك الجميع مرة أخيرة و انصرفوا، تاركين الفتى كطير بلا جناحين، بلا رقبة. أوقفت الريفية الجسد برفق، و دخلت به بوابة المنزل الذي أسكنه، راودني شعور لم يستمر إلا ثوان، فقد تحقق فوراً، لم يكن مناسباً لايواء المرأة

و الجسد المهتريء سوى” المخروبة “، فكانت خبطاتها إجباراً لي بالدخول في قلب الحرب .

نظر لصديقه الذي اندمج في صنع سيجارة ملهمة، وقف بصعوبة، ثم غسل فنجانه الأثير و أعّد كوبين زجاجيين ليشاركه رفيقه حاله العجيب، أفكار و حكايات و مفردات يمتلكها، حين ترك قلمه يتحرك كيفما شاء خطّ عبارات لا رابط بينها، و حين كتب كلمات تحكي الحكايا التي تنوء بها دماغه كانت روحه تزيد ثقلاً

و تمنعه من الاستمرار، كان حلمه يبهت و يحبو نحو زاوية مظلمة، و هو يضغط أسنانه ببعضها و يلف أصابعه قابضاً رأسه خابطاً فوقها علّه يكشف ثغرة تعبر به، لكن الكلمات جامدة في حلقه، و العبارات ناقصة في معناها وفيرة في أعدادها تتسابق أمام عينيه لا يستطيع لها قبضاً .

خمّن صديقي احتياجنا لتنوع في الجو و المنظر. فلنهبط الشارع العريض متجهين لصديقنا الأثير و مانح روحينا السلام و السكينة، فلتخطو أقدامنا نحو بقعة هادئة قرب نهاية المدينة حيث يسكن النيل متأملاً غرائب المقيمين حوله و فوقه، تلمس أصابعنا صفحته فتهتز مرحبة بنا، بينما نتناوب السيجارة ” الصاروخ” التي أعددناها لليلة ربما تحمل طوقاً أو بشرى، لحظات كهذه أتوقع منها غيثاً أو حتى قطرات تنبيء بغيث، استمر صمتنا و نظرتنا الممتدة للنيل حتى بدأت ومضات بسيطة تنعكس على سطحه، كان الصبح يطلع و نحن ساكنين لا تتحرك شفاهنا أو تستقر لنا فكرة.

 في طريق العودة، استوقفني بائع الطماطم المجاور دوماً لبائعة السمن أسفل الشرفة-كان بائعاً للطماطم

و كان أيضاً سمساراً للشقق و يقوم بأعمال أخرى- طلب مني أن اكتب له عبارة فوق لوح من الفلين المحبب؛ ليتحرك الراكد و يشتري الفقير، ” معاً ضد الغلاء”، كانت عبارة تحرك بداخلي الركود فعلياً، مجرد تصوري للغلاء كوحش جشع شفتاه تقطران دماءً يخطو بأقدامه الضخمة فوق رقابنا يحرك بداخلي كل حماسة أو اندفاع فطري للمواجهة، كنت أتساءل فقط عن الرجل الذي يعمل لحسابه هذا الوحش، و عن الأداة التي سيحاربه بها بائع الطماطم، كنت سعيداً حين تصورت أنه سيخفض سعر ما يبيعه، ” هذا رجل ظهر معدنه وقت الحاجة “، لكن رده كان نظرة أخرستني و كتمت أنفاس تخيلي. كان مُصّراً أن أكتبها ” معن ضد الغلاء ” للتأكيد على اجتماعنا سوياً ضده، و أخذ يردد بسخرية من جهلي ” معن، معن، معن .. معاان يا أوستاذ “. حين انتهت الحرب بين قلمي الضعيف و نتؤات لوح الفلين، أقمت ظهري و نظرت بعين الفاحص الخبير،  كانت العبارة سميكة في بدايتها ثم تنحف و تنحني صعوداً أو هبوطاً، لكنها كانت تخرق عين ” التخين،

و تؤكد أننا معاً ضد هذا الوحش الخفي، رفعها البائع فوق عصى خشبية -كرمح مثني من الأعلى-  تتوسط بضاعته فخوراً باسماً، ثم سرّحني كي أُتّم خطواتي نحو مكمني. لمّا أغلقت بابي سانداً بكل جسدي عليه، تنهدت لحظة ثم اتجهت مترنحاً نحو سريري، تمددت مشعلاً سيجارتي الحميمة، ناظراً للسقف الملطخ بدهان أزلي، كنت أتنشق تبغاً مخلوطاً برحيق الحلم و الجنة، يتمدد النيل في أفقي الملون الممتد. فجأة، و كأني سقطت من أعلى الوقت لأسفله، من تحت سطح النيل المترنح، امتدت قبضةٌ فذراعٌ فجسد، كان الولد ذو الشعر القبعة يمد خطواته نحوي، ساحباً من عمق النيل المُغبّر السائقَ المغدور باسمَيْن مسرعين،  كان يلاحقهما جسد هائل يقطر دماءّ أحالت النيل كتلاً من طين أحمر، كان رأسٌ يعلو الجسدَ كرأس البائع أسفل الشرفة. بينما صراخ بائعة السمن يختلط بنباح صادر من صديقي.

…………

يونيو 2018

مقالات من نفس القسم