“فْوِينْلاَّبْرَادَا”!

محمد العمراني
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد العمراني

“إن نجحتُ في الوصول إلى إسبانيا، فإنني أعدكم بهدايا ثمينة، أصطحبها معي عند أول زيارة أقوم بها إلى المغرب بعد السفر”. كان هذا ما أعلنه حسن لجماعة من أصدقائه؛ أحاطوا به في إحدى زوايا الحي؛ مُقسما على ذلك بأغلظ الأيمان. لكن، لا يبدو على أولئك “الموعودين” أخذهم للأمر على محمل الجد؛ ذلك أنها ليست المرة الأولى التي يقدم لهم فيها الشاب مثل هذا الوعد.

  لم يتخل حسن يوما عن حلمه في الهجرة؛ فهو، ومنذ ما يزيد على عقد من الزمن، ينام ويستيقظ عليه. يتألم كثيرا لعدم نجاحه في تحقيقه، بل ويبكي كثيرا عندما يكون لوحده. في صلاته تراه يطيل السجود؛ يدعو الله بكل خشوع أن يحقق له أمله المنشود. لكنه، وبالرغم من توالي فشله، فهو يعلن بأنه لم ولن يستسلم، وسيظل يحاول إلى أن ينجح أو يهلك دون تحقيق حلمه.

وقد يُسأَل الشاب عن أسباب هذا الفشل الذي تكرر معه لأكثر من عقد من الزمن، فتكون إجابته هي نفسها دائما: “إنه الحظ العاثر الذي يتجنب الآخرين، ويلقي برحله عند بابي”. وبالتالي، فأنت لن تعرف حقيقة الأمر إلا إذا استفسرت عن ذلك من مرافقيه في محاولات الهجرة العديدة التي قام بها. ويُسِرّ أولئك: بأن الشاب، ولسُمنته، كان يتعذر عليه إيجاد موقع يناسب حجمه أسفل شاحنات نقل البضائع أو حافلات نقل المسافرين المتجهة نحو أوروبا، هذا مع حالتي خوف شديد وضيق في التنفس كانتا تنتابانه إذا ما نجح في التموقع هناك، مما كان يدفع به إلى مغادرة المكان بأسرع وقت.

ووعيا منهما بحالة ابنهما، وبالمخاطرة الشديدة التي تمثلها له عملية “الحْرِيكْ”، فقد حاول والداه ثنيه عن الأمر أكثر من مرة؛ داعييْن إياه إلى التركيز على حرفته التي يُشهَد له فيها بالتفوق والتميز، لكن من دون جدوى. وفي هذا السياق، وجب التنويه إلى أن حسن نجار ماهر، بل هو فنان حقيقي؛ تُبدِع أنامله تُحفا رائعة. لكن كل هذا كان في الماضي، أي قبل أن تعشش فكرة الهجرة في عقله وتصرفه عما دونه.

وبإيعاز من والديه دائما، كان تدخل بعض المهاجرين القدامى في الحي ذات يوم؛ مُحاولين إقناعه بالعدول عن فكرة الهجرة. لقد أعلنوا له أن أحوال أوروبا وإسبانيا الاقتصادية قد تغيرت كثيرا؛ مُقارنَةً بما كان عليه الأمر قبل عقدين من الزمن؛ فالأزمة وانعدام فرص الشغل والعنصرية هي العناوين الكبرى لتلك الأحوال في السنوات الأخيرة، وبالتالي فلا فائدة ترجى من مغامرته تلك. لكن الشاب لم يكن يأبه لمثل هذا الكلام، (الذي كان يسمعه على مضض) بل وكان يتعامل معه بريبة شديدة؛ رادًّا إياه إلى رغبة هؤلاء الناصحين في التمتع بـ”الكعكة” لوحدهم؛ حسدا وخبثا من عند أنفسهم.

لم يحدث أن وطأت قدما حسن  أراضي الجار الشمالي للمغرب من قبل، لكنه يمتلك معلومات وافية عن هذا البلد ولغته؛ فهو، ومع مرور السنوات، غدا قادرا على تحقيق الفهم والإفهام مع مخاطبيه باللغة الإسبانية بكل سهولة ويُسر. لكن، ودونا عن جميع مناطق إسبانيا المتوزعة شمالا وجنوبا، فإن مدينة صغيرة واحدة قد استأثرت باهتمامه وسلبت عقله، ألا وهي “فْوِينْلاَّبْرَادَا”.

  ويعود ارتباطه بهذه المدينة- والتي لا تبعد كثيرا عن العاصمة “مدريد” وتتبع إداريا لإقليمها- لكثرة ما سمع عنها وعن أخبارها؛ مترددة بين المهاجرين من أبناء الحي، الذين وصلوا إليها طيلة السنوات الماضية، واستقروا بها. لقد غدت فوينلابرادا -بالنسبة إليه- أشبه ب”أرض الميعاد” التي لا يعتورها نقص، حيث سيحيا حياته الرغيدة، ويحقق جميع طموحاته وأحلامه؛ مُعوضا بذلك سنوات الحرمان الطويلة التي عاشها.

وكخبير بتفاصيل العيش هناك، كنت تقف على الشاب المغربي وهو يحاضر وسط من تبقى في الحي من أقرانه: “في “فْوِينْلاَّبْرَادَا” يمكنك الحصول على أضعاف الأجر الذي قد تحصل عليه هنا، لكن عليك بالجدية و”المَعْقُولْ”. الناس هناك ينامون باكرا ويستيقظون باكرا. السبت والأحد هما يوما عطلة، ووجب أن تُحسن استغلال الوقت فيهما بشكل جيد؛ فتُخصِّص السبت للتسوق وقضاء باقي الأغراض، فيما يكون الأحد للراحة والتنزه رفقة الأهل والأصدقاء. الأطعمة والمواد الغذائية متوفرة بكثرة وبأثمنة مناسبة. اللحوم الحلال كذلك”.

 في “فْوِينْلاَّبْرَادَا” يعتقد حسن بأنه لن يُعاني مثل ما يفعل باقي المُهاجرين، ذلك أن له فيها كثيرا من الأصدقاء “الخُلَّص” الذين يشجعونه على المجيء، ويعدونه باحتضانه في بيوتهم عند قدومه. ويبدو الشاب مُصدِّقا لتلك الوعود ومتشبعا بها، بالرغم من تحذير ابن خالته “يونس” له، والذي كثيرا ما ردد على مسامعه حكايته مع أولئك “الخُلَّص” الذين، وبعد أن أشبعوه من معسول الكلام في المغرب، تنكروا له جميعا وأقفلوا أبوابهم دونه حينما طرقها في أول أيامه بـ”فْوِينْلاَّبْرَادَا”. “الناس في بلاد الغربة ليسوا هم أنفسهم أولئك الذين تعرفهم في المغرب. الشعار المرفوع هناك هو: “نفسي.. نفسي” فلا تغتر بما تسمعه من جميل الكلام”. هكذا كان يقرر يونس في حديثه مع حسن.

وفي فصل الصيف كانت أحزان الشاب تتضاعف وتشتد. هكذا، وابتداء من الأيام الأولى من الشهر “السابع”، كان يتوالى تقاطر أبناء الحي المقيمين في الديار الإسبانية، وهم في أغلبهم أصدقاء ومعارف؛ سبق وأن رافقوه إلى ميناء المدينة لأيام وشهور، قبل أن يبتسم لهم الحظ ويتوفقوا في الوصول إلى “الإِلْدُورَادُو” الشمالي.

وكنتَ تجد الواحد منهم وقد عاد أنيقا في مظهره، مع رائحة عطر قوية تسبقه. يحط رحاله أمام البيت، فيهرع من فيه من الأهل إلى احتضانه؛ مُرحبين به وبحمولته، ورافعين أبصارهم نحو باقي بيوت الجيران؛ كأنا بهم يُعلنون النصر أخيرا؛ النصر على الفقر والحرمان وعلى “العُدْيَان” كذلك.

 ويحرص أولئك العائدون على ألا يكون دخولهم إلى أحيائهم على متن سيارات للأجرة. ولأجل هذا، كانوا يبذلون قصارى جهودهم لكي تكون عودتهم “المظفرة” تلك على متن سيارات خاصة؛ يقتنونها -في الغالب- قبل حلول موعد السفر بمدة قصيرة.

 وخلال أيام إقامتهم في بيوت الأهل، كان الكثير منهم يقضون أوقاتهم مرابطين عند السيارات المتوقفة في أطراف الحي؛ مُتعمدين ترك أبوابها مفتوحة؛ وجاعلين أجهزتها الموسيقية تصدح بأغاني “الراي”، وبباقي صنوف الموسيقى الشعبية المغربية، هذا مع روائح مُعطرات قوية تُتخذ لإثارة الانتباه إليها.

وبالإضافة إلى هذه المشاهد المؤلمة لحسن، فقد كان حزنه يتعمق أكثر عند سماعه لخبر قران يعقده أحدهم على فتاة الأحلام في الحي، والتي كنت تجدها وصويحباتها يتهافتن على هؤلاء “الناجحين”؛ منتظرات بشوق جارف تلك اللحظات التي سيركبن فيها البحر نحو “الخَارِيجْ”؛ حيث الأمل والمستقبل والخير العميم (أو هكذا كن يتمثلن الأمر).

يُراقب الشاب كل ذلك؛ مُتحسِّرا على حظه الذي لم يسعفه في نيل زينب، ابنة “عمي إبراهيم” التي لن يستطيع التقدم إليها في وضعه الحالي. وهو مع حسرته تلك، مُتوجِّس من مآلات الأمور مع حبيبة القلب، إذ قد يخطفها منه أحد أولئك العائدين في أي لحظة، مع يقينه بأن إغراءات “الخَارِيجْ” وأهله لا تقاوم.

……………

كاتب من المغرب

مقالات من نفس القسم