في وداع شيخي
سارة يوسف
1
العمة والقفطان والمسبحة وجلسة كل خميس قبل الغروب لتقرأ ما تيسر من لوح يومي علها تلحق بمسابقة ليلة القدر ..أو على الأقل تدنو من مجلسه الذي ظل كما رأته أول مرة يتوسط الحجرة الضيقة الواسعة بأهلها الصغار ينصت ويتلو ويصحح من أول فاتحة الكتاب حتى دعاء ختمه في ليلة أشبه بالعيد بتفاصيله وألوانه ودعوات للطريق يتخللها تحلية الأرز باللبن الساخن إيذانًا بميلاد حافظ جديد ...
2
أول مرة مر عليها العمر كله إلا ثلاث سنوات ,ومازال التلعثم والخوف وطيش البداية المربك ونطق العربية الصعب ,وقت أن كان الحلم أن يتخطى المرء "جزء عم ".أن تغمض عينيك وتتلو بكل ثقة سورة البينة بلا خطأ واحد ,أن تكبر قليلا فتخرج من زمرة الجالسين أرضًا ـ زملاؤك السابقون ــ لتقف وجهًا لوجه أمامه يمنحك لوحًا تحفظه ,سريعًا، وبعد وقت قليل ترتقي وترتقي حتى يباهي بك رفاقه ,فما إن يأتي أحدهم حتى يناديك: أقبل قل ما تيسر لك من سورة كذا
تدنو من أذنه :تقرأ وتقرأ
ويبتسم .
3
جمعتهما القرية والمدينة ومساجدها التي شهدت مسابقات صعبة ,عبروها معًا, ويوم أن أخفقت في إحداها ترأف بها ولام الشيخ الممتحن ..بل وأهداها ماء الورد ورغيفًا و فلافل ساخنة ..
4
"غادرنا الجمعة الماضية" قالوا لها ..صمتت وانسكب شلال من اللحظات الحلوة الموجعة ..شريطًا من حياة ودنيا تناستها مع الأيام ..الخروج باكر قبل الذهاب للمدرسة حيث بيته وكٌتابه "بضم الكاف وتشديد التاء" والعودة عصرًا إليه ,مراجعته اليومية حتى أتمت القرآن كاملا",محاولاتها العبثية في أيام الصيف أن تهرب من هذا الواجب اللعب مع الأصحاب دون جدوى ,وقت أن كانت تقرأ معه خطبته التي سيسردها على الناس كل جمعه ودقته المتناهية في كتابتها بلونين الأزق والأحمر ,حرصه أن يتعلم التاريخ والجغرافيا حتى يجتاز معهد القراءات ليمسك بمفردات قرآنه ..
5
آخر مرة منذ ثمان سنوات زارها مهنئً يوم أن التحقت بعمل قضائي ومؤكدا أنه لطالما تنبأ لها بأكثر من ذلك وطلب منها أن تقرأ له في أذنه كما عودها ,واندهشت أنها قبلت على الفور وقرأت له سورة الإخلاص ....
6
شيء ما غاب، ربما كان حلمًا,أو عمرًا مضى ,المؤكد أنك مازلت هنا تجلس على كرسيك وسط الحجرة بعمتك وقفطانك,ممسكًا بعصاك الخشبية في خميس أبدي تتلو عليهم سورة الفاتحة في عرض مستمر لن ينتهي...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية