امرأة صلبة، دماغها ناشفة حديد، ووجهها الحليب راح ينشف منذ وفاة زوجها حبيبها، زوجها عشيقها، أكيد أكيد من أول ما بدأ الجماعة إياهم يتقاطرون خلفها، واحد في ذيل الثاني ،… والذين انتظروا مرور أربعين المرحوم قلة، والذين انتظروا انتهاء العدة أقل.
الذي برم شنبه، والذي لبس ما على الحبل، جلباب أخيك شلبي، والذي ترك الغيط على حاله ومواله، وضرب صحبة غصباً عنه مع المعلم حسن الفِشلة، بوجهه الكشر وقفاه العريض، وجالسه على دكته مضطراً أمام دكانه حيث تمر عشية وضحاها، وإن أخرج محفظته وطرقع مفاتيحها بين حين قريب وآخر ليشتري فولاً أو عسلية حتى لا يضرط الفشلة، ينهي المقابلة ويسكّر الدكان، بعد أن يسحب الدكة من تحت صاحبنا دونما استئذان.. وهو يغمغم.. كلاب سعرانة بصحيح.
ما من مرة تركها لأحد رغم المحايلة، أو الادعاء بحجة انتظار صلاة الظهر.
الذي صاحب لواحظ صاحبة دكان الخضار، وجلس على قفص فارغ عندها، والذي،.. والذي..،
أيام وشهور.. والغاوي ينقط بطاقيته، وهي .. بعد أن اجرَّب الأسود عليها وكلح، لبست الكحلي الغامق ثم الفاتح، فهاج بياضها المحمرّ، وسبقتها شَرْطة عينها،
رفعت الطرحة الشبيكة أعلى فمها، فتركزت الأضواء على العيون والحاجبين والمناخير النبقة، وتركت لفمها أن يعلن اكتمال البدر حين تُرخي الطرحة لأسفل، ساندة خدها على كفها الشمال، أو حين ترتخي الطرحة وحدها وتتهدل حافتها من فرط سخونة الالتصاق، فيما إبليس وجنوده يمرحون.
.. الحليب نشف في بزي من زمان.. قالت له بعد أن تعبت منه المراسيل، وغُلب حمار الخاطبة منها ومنه.
تجاوزهم، تركهم للآخرين، وفاجأها..
.. حليبك نشف من البز، لكنه مرعرع في كل مكان، ابنك ابني وأنا شاري.
أيام وشهور، الذي رمى بياضه، والذي وسّط لواحظ وأم لواحظ، والذي أرسل لها جوال البصل، وأربع كيلات قمح من الغيط مباشرة حتى لا تدري امرأته.
تكرّ داخل الوادي على رجل واحدة، تفر من العيون وتفر إليها، تشبع امتناعها وترطب قلبها الميت، وبعود ملفوف لا تتغنج قاصدة، لكنها أشياؤها تكاد تنفرط منها في كل اتجاه.
توسع هدومها فتفضحها الريح، تضيقها فتأكلها .. ويتبادلن القتل.
شنبات الوادي بربطة المعلم، على داير شنب، من شيخ الجامع حتى عبد الحي ناعسة، العربجي الأوحد- اسم زوجته التصق به- يستندون برفق وبغير رفق على مراودهم.. ومحبرة واحدة.
محبرة واحدة من عينة غزلان، كانت كافية لأن تشحذ السيوف، وتنفض المقالع في الرايحه والجايه.
فكرت أن تمتنع عن الخروج، ولمن تترك صغيرها وأمها؟.
حين ضايقها شيخ الخفر مرة، ومدّ يده على فتحة صدرها غفلة، نتشتها، مزعت الجلباب من أعلى، شقته نصفين حتى نصفها:
ارتحت يا حكومة…
وبصقت.
الذين رأوا اختشوا، وإن سال لعابهم ومرت ألسنتهم على شفاههم عجلى، والذين سمعوا هاجوا وركبوا نساءهم، والنسوة غرن ودعون على الحنفية العمومية أن تغور المحروسة من الوادي.
فكّرن أن يقتلنها بأغطية الحلل، والدم المشترك حلال، لكنهن تراجعن خوفاً وطمعاً بعد أن تأكدن أنها غير راغبة بالفعل، وبعدما شقت قميصها للحكومة في قلب النهار.
وهم بين المتلمظ والمتلظي، شعروا بالفتنة بعد أن أخذتهم الفتنة، خافوا ان يقتتلوا بعد أن تكاشفوا وجهاً لوجه.
وجملة أبوالعشم ترن في قلبها، وقلب الوادي:
الحليب نشف في بزك من زمان، لكنه مرعرع في كل مكان.
أبو العشم الذي يحمل رجله الثالثة على كتفه ليل نهار، لا يفكر بشيء إلا بها.
ولأنه من الذين يعبرون الفتن ولا يبتل، كالعجل في بطن أمه، راح يحمص الحطب ويقدح الأحجار، غزلان الغزالة تستحق، ينتظر على ماء بارد مرة وعلى نار جهنم مرة أخرى، ليأكل البطة وحده، البطة التي تزوجها دياب العُكّش قطة مغمضة، في السر، غصباً، وفاءً لدين أمها الذي ناءت به، وما من باب رزق لترده.
فتحت له رجليها.. ونامت، وتركته وحده يشتعل ويشتغل.
وحين ذاقت لذة العشق، وطرف عينها منديل يس العاشق، الصياد العايق، الذي رمت نفسها في شبكته قبل أن يرميها، خيرت زوجها بين الطلاق أو الفضيحة، رفض، قتله العاشق، دفنه في غرفتها تحت سريرها، لا من شاف ولا من دري، وناما معاً فوقه، وماء المحبرة الذي فاض وسال روى قبره ليلتها وباقي الليالي.
ولأن التبات والنبات لا يعمر طويلاً فوق الدم، ولا يزهر فوق مجراه، أخذته حبة طماطم مسمومة وجابت أجله في لمعة عين.
وهم كما هم، الذي كلت مراسيله، والذي اشترى لابنها كسوة العيد، لكنها شدت المزلاج، أرخت الستارة على النافذة، وأقفلت المحبرة بعد أن سالت منها ولها الدماء غزيرة.
في الليل البعيد، بعد منتصفه بمنتصف، تخلع ثيابها، قطعة قطعة، على مهلها، على أقل من مهلها، كما كان يفعل العاشق بالتمام، يخلع قطعة، يقبّلها، يخلع أخرى، يحتضنها، يخلع الباقي والباقي قليل، تصدّ يده بدلال، تخلع القليل وحدها، لتصفو له بسرعة.
وصوت ارتطام مفاتيحها يضرب السقف بعد أن فتحت بها أبواب الجنة.
هي الآن تخلع، تسحب شبكة صيده من تحت الملاءة، تنام عليها كل ليلة منذ فارقها، وعلى جسدها الحار ترميها، ليصيدها، تتطلع في المرآة، تلف نفسها لترى جسدها، لتراه، حيث سيخرج من المرآة كعادته، يلف ظهرها ويحتويها .
والعاشق في البعيد، هناك تحت التراب.
تسقط على الأرض، على عين المكان الذي واقعها فيه نصف لياليهما، دموعها أنهار، دموع العينين، والعين الثالثة… حتى يمتزجا، ثم تنام.
شهور وشهور، الذي يلحم الجزم البلاستيك يربض عند باب دارها ويقيم محرقته، وهي وإن عافت، لكنها تشبع حمى جسدها أحيانا بهؤلاء الذين يتمسّحون ببابها، بأحذيتهم المقطوعة المنهكة، لينالوا فرصة للحديث أو خيطاً طويلاً للعودة، وكلمة يس ترن في أذنها:
حلوه، وريقها حلو.
تصرخ من عمق كعبها، شريط حياتها مثقوبٌ بحوافر الألم، ليس هناك متسع لجرح، وجرح الأنثى يغلي، يغلي ويتسع، وما من كبير ليطفئه ،ما من محروس ليرتقه.
لم تعد تخرج إلا لمحروس، لطلب عنده، تحيك حكايته، وما من حكاية، ومحروس يسمع وعينه على الحائط، يلبي طلبها ويغض طرفه، عرفت برادارها أن الراتق لن يخيط ثوبها.
تعبت وتعبت روحها، وللجسد نداؤه، والباب مقفول يكاد مزلاجه يفلت.
وأبو العشم بقرنه واقف على قرن الليل ،.. من يصطاد غزالاً يحتاج صبراً، يلاحقها مرة بعد مرة، داره تجاور دارها، لا يريد لأحد أن يعرف قبل أن يمضي، يريد أن يفطر بها قبل أن يبين في عينها عشقها لمحروس، فيرتد إليه طرفه.. لن يستطيع أحد أن يقفز على قناة محروس، ولو لم يكن بها قطرة ماء.
هي أيضاً خافت وأنهكها التعب.
للعشق قانون، وللزواج أحكام… ومضى.
لمحها من شباك الغرفة التي تفصل بينهما، تحمل حذاء ابنها، لبس العباءة على اللحم إلا من صديرية، خرج وألقى السلام، وضع حذاءه أمام اللحام بعد أن شقه بالداخل، انحنى على ركبتيه في مواجهتها ومجانباً اللحام.
من هول المفاجأة تسمرت عيناها، لم تحول وجهها،
أمعنت وأخفضت، كان مقلاعه يكاد يعبر حافة ركبته مصهللاً من مفرق العباءة، أدارت وجهها بسرعة للحام الذي كان منهمكاً في تسخين السيخ.
عادت بوجهها، كان سيخه متأهباً ليفتح المفرق بدلاً من أن يلحمه.
أخفت نصف ابتسامة على عجل، ابتلع وجهها غمازاته وأبقى خجل الفرحة.
أرسل لها بعد صلاة العشاء.
وافقت.