كانت الأفاعي تعيش آمنة في أحراش البوص، حتى قررت الحكومة بناء مستشفى جديد. عبثت الريح في الأحراش على أطراف المدينة أمدا طويلا، تحني أعواد البوص التي ارتفعت أكثر من ثلاثة أمتار، حاملة التراب والقمامة إلى مجرى الترعة الجاف.
اتخذت أسراب العصافير وأبي قردان من فروع الصفصاف شبه الميتة مأوىً لها. واستغلت الأفاعي شعر الصفصاف الكثيف وانحناء أغصانه بفعل الجفاف والريح،وغافلت الطيور الساذجة.
ازدحمت المدينة، وانتشرت السيارات وزادت عوادمها. وكان السل والالتهاب الرئوي يحصدان أرواحا كثيرة كل عام، خاصة في الشتاء. أراد المسئولون بناء المستشفى في مكان بعيد، كي يستنشق المرضى هواء نظيفا خاليا من العوادم والتلوث، وكي يحمل الناس أمواتهم بهدوء، بعيدا عن الأعين.
وعلى غير العادة، سار كل شيء بسرعة. جُرفت الأرض وأزيل جزء كبير من أحراش البوص، وبُنيت المستشفى على مساحة واسعة. مبنى كبير من خمسة طوابق فيه عنابر المرضى وغرف العزل، والاستقبال في الطابق الأرضي، يقابله مبنى آخر من ثلاثة طوابق لسكن الأطباء والتمريض ومكاتب الموظفين. وعلى مقربة مبنى صغير من طابقين لم تعلق عليه أية لافتة إذ يعرف الجميع أنه مبنى المشرحة. أحاطوا كل هذا بسور منخفض، وأشجار فيكس قصيرة قبيحة.
وبعد تجهيز المستشفى، وقبل أن يأتي المرضى، بَنَتْ الحكومة في الجوار مدرسة ثانوية زراعية أكلت ما تبقى من أحراش البوص، فظهر مجرى الترعة الجاف واسعا عميقا مليئا بالقمامة، وظهر الطين الأسود يابسا متشققا.
استمر بناء المدرسة فترة طويلة على عكس المستشفى، وفي أيام الخماسين والشتاء، كانت الريح القوية تحمل التراب الأسود اليابس إلى رئات المرضى الملتهبة المريضة داخل المستشفى.
ثم عرضت الدولة كل الأراضي المواجهة للمدرسة والمستشفى للبيع، في محاولة منها لتعمير هذا الجزء النائي. توجس الناس من السكن جوار مستشفى للأمراض الصدرية، مليء بمرضى السل والالتهاب الرئوي. ظلت الأراضي المعروضة للبيع لا تجد مشترين، فخفّض المسئولون أسعار البيع حتى صارت أقرب لهبة مجانية.
في هذه الأثناء، كان عبود الصايح قد وثّق صلاته بالمدينة،وجد لنفسه مكانا في براحها بعدما هرب من ضيق القرية. اشترى مقهىً صغيرا في شارع الصاغة الحيوي، جوار جامع السنجق، واستأجر شقة كبيرة في شارع الحسينية القريب، سكنها مع زوجته وابنيه.
سمع بالأراضي المعروضة للبيع، وعرف بتخوف الناس من السكن جوار مستشفى الحميّات، فأدرك أن إحجامهم قد يكون ذا عون له، فقط عليه أن يذهب كي يرى بنفسه.
ترك المقهى لصبيانه ذات صباح، وذهب سيرا.وكلما اقترب، خفتت الأصوات وزادت الأرض تعرجا وخشونة. وقف على بداية الطريق الترابي الطويل، أسوار المعسكر الانجليزي القديم عن يمينه، ويرى حركة السير في شارع عبد السلام عارف البعيد.
ورغم أنه لم يكن هيّابا، إلا أن رجفة ما استبدت به، نفضها عن نفسه وضغط على عضلات فكيه بقوة، تذكر طرقات قريته ليلا وما كان يفعله قبل عشرين عاما. تذكر قفزه من فوق الجميزة العالية إلى الترعة، وما جعل صيته يلمع في القرية حقا، عندما تمدد تحت عجلات القطار، وحرص ساعتها أن يراه أصدقاؤه جميعا.
نظر عبود من فوق سور المستشفى المنخفض فلم ير شيئا ذا بال. ظن أن المستشفى خالية لولا أن رأى ممرضة تعبر من مبنى إلى آخر. جال بعينيه يمينا ويسارا، درس المنطقة جيدا، ثم عاد إلى المقهى.
فكر كثيرا، قلّب الأمر من جميع الأوجه، تقصّى حتى وصل إلى كافة المعلومات التي يريد، ومن خلال علاقاته المتعددة المتشعبة وجلسات الحشيش اليومية، وصل إلى الموظفين المختصين.مائتا متر هي كل ما يريد، وعلى رأس الشارع المواجهة للمدرسة مباشرة.
جهز أوراقه واتبع التعليمات، دفع ما يلزم لموظفي الحيّ وضرب على الأمر كتمانا كبيرا حتى أن زوجته لم تعرف شيئا. وبعد أشهر تمّ له ما أراد. وحينها فكر في أن يترك قطعة الأرض حينا حتى يرتفع سعرها، ثم يعرضها للبيع، وبهامش الربح، يجدد مقهاه، أو يبيعه ويشتري مقهى أكبر في نفس المنطقة.
في هذه الفترة، كان صالح أبو العز قد ترك بيت أبيه في كفر صقر بعد مشادة وخلاف كبير. تصدى له جميع إخوته وأغاروا قلب الأب لإقصاء أخيهم الأكبر عن منصب العمدة ولحرمانه من حقه في الميراث كي يتوزع بينهم.
أدرك صالح الفخ متأخرا، اعتذر وعاد نادما. فشلت محاولات الصلح رغم توسط الكثيرين، لكن أباه كان قد اتخذ قرارا لا رجعة فيه. اعترى صالح غضب عارم، فباع عشرة أفدنة، هي كل نصيبه من ميراث أمه لأحد أعداء أبيه، ثم ترك القرية إلى الأبد.
وضع كل ثروته في البنك، وأقام فترة طويلة في قرية قريبة من المدينة، عند صديق مقرب يعرفه منذ أيام الحرب والتجنيد.قال إنّه ترك البيت بشكل مؤقت وسوف يعود قريبا بعد أن تهدأ النفوس. ولم يخبر صديقه بما حدث.
عرف صالح بالأراضي التي عرضتها الدولة للبيع في المدينة الواقعة على بعد مرمى حجر. فكر في شراء الأرض وبناء بيت دون حاجة لأهله. وبمساعدة صديقه أنهى الإجراءات وحصل على ما يريد. قطعة أرض بمساحة 200 مترا، وشرع في بناء البيت بعد أسابيع قليلة، وكان بيته هو أول بيت وضع للناس في المنطقة كلها.
لم يستطع صالح أن يتزوج من امرأة ذات حسب ونسب، فهو بلا عائلة، رغم أصله الطيب، فتزوج من ابنة فلاح فقير. وبعدما أتم بناء البيت، كان يقف على سطحه فيرى المساحات الخالية، يرى المستشفى والمدرسة التي لم تكتمل بعد، يرى السيارات التي تسير في شارع عبد السلام عارف البعيد، ومقابر الأقباط ذات السور العالي.
وفي يوم ما وعبود الصايح ذاهب مع البنائين والحمالين كي يبني سورا حول أرضه، بزغت في رأسه فكرة غيرت كل خططه القديمة.رأى المنطقة وقد امتلأت بالبيوت والعمال والأُجراء، ولابد أنهم يريدون الشاي والقهوة والمعسل، وماءا باردا وتكعيبة تظللهم.لم يتردد، فأمر العمال برفع السقف.
اشترى أكوابا وملاعق وأراجيل ودخانا، اشترى كل ما يحتاجه المقهى الصغير المرتجل. أخذ واحدا من صبيانه وشرع في العمل فورا. كانت زوجته تحل محله في المقهى القديم ساعات الصباح، حتى يعود بعد العصر بقليل حين يرحل البناءون وعمال المعمار.
استمر على هذا الحال عدة شهور، ثم قرر أن يبني بيتا بدورين، ليكون المقهى في الدور الأرضي. وفي عصر يوم صيفي حار، وهو جالس يتكلم مع العمال في المقهى، نصحه أحدهم بالتقدم بطلب إلى الحي ليكون الشارع باسمه. فتخيل نفسه جالسا في المقهى، بالجلباب البلدي، يدخن النارجيلة، يحصي الماركات ويباشر العمل، يحيّيه هذا ويسلم على ذاك، واللافتة معلقة على جدار بيته مكتوب عليها شارع “عبود الصايح”.
ولما ذهب صالح أبو العز إلى مبنى الحي ليسمي الشارع باسمه، عرف أن عبود قد سبقه فاستشاط غضبا، سب الموظفين فطردوه. دخل صالح المقهى هائجا مضطربا، فرأى عبود جالسا يدخن النارجيلة باسترخاء والعمال من حوله.صرخ فيه وسبه، وحال العمال بينهما، ودفعوا صالح أبو العز بعيدا ناحية بيته. وظل مؤرقا لعدة أيام يفكر في الانتقام وفي استرجاع حقه حتى يطلق اسمه على الشارع.
فكر صالح أن يستعين بصديقه لضرب غريمه وهدم المقهى على رأسه. لكنه تراجع لما فكر قليلا في عواقب الأمور، فلابد أن الصايح سيرد، وهو وحيد غريب ما له من سند.
ظل صالح أبو العز يراقب القادمين إلى الشارع، يرى البيوت تزداد وتعلو، فيمتلئ قلبه فرحة وأملا، فقد يجد فيهم من يكون له صديقا وعونا.أعماه الغضب لما اتخذ عبود رفاقا وصحبة من العمال ومن الساكنين الجدد.فأبلغ الشرطة وحرر محضرا ضده، حيث اتهمه بأنه يقدم الحشيش لرواد المقهى.
أُغلق المقهى لعدة أيام وقُبض على عبود، لكنه خرج بعد فترة قصيرة، وظل صالح خائفا من انتقامه. يحاذر في سيره، يغلق بوابة البيت بإحكام، امتنع عن تناول الشاي وقراءة الجريدة في الشرفة عصر كل يوم، خوفا من أن يطلق عليه عبود الرصاص.
لم يحدث شيء ولم يأت الرجل بأي ردة فعل.هذا السكون الذي أخاف صالح أكثر.ظنّ أن عبود يدبر لانتقام رهيب يحتاج تخطيطا طويلا.واستمر صالح على هذا الحال شهورا، حتى جاءت مولودته الأولى، فنسي كل شيء.
وبعد أن كان بيت أبي العز أعلى بيت في المنطقة، بُنيت على ناصية الشارع بناية مرتفعة من عشرة أدوار، فأكل الغضب والحنق قلب صالح أكثر من ذي قبل. وأشاع بين الجيران الذين يلتقيهم بعد صلاة الجمعة، أن هذه البناية إلى زوال عما قريب ولابد أن تنهار. فالأرض الطينية لن تحتمل كل هذه الطوابق، ولا يعرف كيف يسكن الحمقى في بناية آيلة للسقوط.
سكان هذه البناية كانوا مختلفين عن أهل الحي القلائل في ذلك الحين، يركبون السيارات، وبعض نسائهم متبرجات، وأغلبهم يعملون في الخليج ولا يأتون إلا في فترة الإجازة الصيفية.لذا لم يعتبرهم أهل الحي من سكان المنطقة.
ذات يوم رأى صالح أبو العز رجلا يدخل الشارع المليء بالحفر والتعرجات، بسيارة فيات فضية، وجواره سيدة مسنة. نزل الرجل من السيارة ووقف أمام قطعة أرض خالية. كان يرتدي بذلة كحلية ونظارة شمسية، ويكلم السيدة المسنة الجالسة في السيارة، وأدرك صالح أنها أمه.
عاين الرجل ذو البدلة الكحلية قطعة الأرض عن قرب، ثم رحل. ثم عاد بعد عدة أسابيع ومعه عمال البناء.راقبه صالح لأيام.وذات مرة نزل إليه بكرسي خشبي وزجاجة ماء بارد.عرّفه بنفسه وعرض خدماته.عرف أنه سيبني بيتا يسكن فيه مع والدته وأخته.وحدث نفسه بأن هذا الرجل ابن الأصول لابد وأن يكون صديقه، هكذا حدث صالح نفسه.
صار ينزل إليه كل يوم بالكرسي الخشبي وزجاجة الماء، وبعدما توطدت العلاقة، نزل بكرسيين وزجاجتي ماء ومنضدة صغيرة.يجالسه حتى ينتهي العمل قرابة العصر.
عرف أنه مهندس عائد من العراق حديثا، وقد وضع تصميم البيت بنفسه. ولما اكتشف نشاطه في الحزب الحاكم والمجلس المحلي، تحمّس وحكى قصة النزاع على اسم الشارع وما فعله الصايح، فوعده الرجل أنه عندما ينتهي من بناء البيت سوف يبحث مشكلته مع المسئولين. شكره صالح وقد امتلأ حبورا وسعادة،لأنه وجد ضالته أخيرا.
توافد الناس وتكاثروا في الشارع الضيق الذي لا يتعدى عرضه الأمتار الستة ويزيد طوله عن الثلاثمائة متر بقليل. جاء القصّاص تاجر الألبان الأسمر ذي العينين الضيقتين مثل اليابانيين. وعبد المنعم مدرس اللغة العربية ذو الصوت الأجش. جاء أبو فوزي وزوجته، وجاءت سلوى علام الأرملة وأبنائها.
جاء حمودة الطوبجي، وأبو وليد الذي أصر على عدم اقتلاع الشجرة من أرضه وبنى حولها فناءً. ثم مات بعد أن وضع الأساس بأسبوع واحد.
جاء محمد سلام مع أخيه، وجاء آل شومان، وأحمد الحُطيبي، والدمرداش الصعيدي شديد السمرة، وجاء حامد جمعة تاجر الفواكه الذي بنى بيته بين بيت المهندس يوسف عاشور وبين بيت الدمرداش.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وروائي مصري
الرواية تصدر قريبًا عن دار العين