فاروق عبدالقادر الكاتب المصري الحرّ

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 


سيد محمود*

لم يشأ ناقد أدبي ومسرحي كبير مثل فاروق عبدالقادر أن يرحل أول من أمس من دون أن ينطوي رحيله على مفارقة درامية تلائمه. فقبل رحيله بيوم واحد نال جائزة الدولة للتفوق وعندما شاع خبر وفاته اعتبر بعضهم أن الوفاة التي جاءت بعد غيبوبة طويلة في المستشفى هي شكل من أشكال الاحتجاج على الجائزة التي لا تليق بقيمته الثقافية الكبيرة. وهناك من رأى أن «توقيت موته أحرج المؤسسة التي عاش يقاوم تناقضاتها وفسادها». لكنّ ما يلفت أن جانباً كبيراً من مفارقة موته جاء من زاوية الاعتراف المتأخر بقيمته، فقد حرص ناقد بارز كان عبدالقادر يصنفه دائماً في خانة الخصوم وهو جابر عصفور، على أن يمنح عبدالقادر في جلسة التصويت على جوائز الدولة، اعترافاً بقيمته لم يكن في حاجه إليه لأنه جاء في الوقت الخطأ. وقد وصف عصفور عبدالقادر بالقيمة الثقافية والفكرية الكبيرة التي تستحق أن تنال جائزة مبارك وجائزة الدولة التقديرية وليس جائزة التفوق. وهي حقيقة تختزل دور ناقد بنى صورته العامة على شجاعته في الإعلان عن آرائه النقدية، وهي شجاعة كانت تكلفه دائماً خسارة المنابر التي كان يكتب فيها.

ومن يتأمل كتابات الراحل يجد أنها بالإضافة إلى نزاهتها تميزت بخصال لم تكن متوافرة في الكتابات المعاصرة له، فهو على خلاف النقاد الذين بنوا حضورهم على تجنب احكام القيمة بفضل الهوس بالبنيوية في مرحلتها الأولى، كان عبدالقادر يقاوم هذا الاتجاه، ليس عن جهل بالبنيوية وتطورات الفكر النقدي الذي تابعه عبر ترجماته المتميزة، وإنما من منطق الايمان بالدور الاجتماعي للناقد وبمسؤولياته الأخلاقية. لذلك حفلت كتاباته بأحكام نقدية كان بعضها قاسياً لكنها ساهمت في رسم صورته كناقد نزيه. ويكفي هنا أن نتمثل بكتاباته حول بعض أعمال نوال السعداوي وجمال الغيطاني ولطفي الخولي وعبد الرحمن الشرقاوي وعلاء الأسواني، وعن تلامذة رشاد رشدي من كتّاب المسرح أمثال سمير سرحان ومحمد عناني وفوزي فهمي. فقد رأى الراحل أن النقد ممارسة أخلاقية تنطوي على دور تنويري وليست ممارسة وظيفية و «معملية» جافة. وربما جاءه هذا الإيمان بسبب ارتباطه المبكر باليسار، فهو مارس العمل السياسي السري لفترة بعد تخرجه في العام 1958 (حزب الراية). وعلى أرضية هذا الارتباط كانت ثمة وشائج كثيرة تربط كتاباته بالكتابات النقدية التي تفوح منها رائحة النقد الاجتماعي على الأقل، بحكم خلفيته كدارس لعلم النفس والاجتماع. ولعله في معنى ما كان امتداداً لتيار عريض في النقد الأدبي المصري يضم محمد مندور ومحمود أمين العالم وشكري عياد وعلي الراعي، والأخير كان الأقرب إلى قلبه. لكنه على أية حال لم يكن ناقداً إيديولوجيا في المعنى الضيق إذ انفتحت كتاباته الأخيرة التي كرس بعضها للنصوص الروائية والقصصية الجديدة على أعمال كانت في جوهرها معادية للإيديولوجيا، لكنه سعى إلى تفهم منطقها الداخلي واستوعب السياق الثقافي والاجتماعي الذي أفرزها وقرأها، على ضوء ذائقته ولكن خارج أحكام الإدانة أو التقليل من قيمة تلك النصوص.

 

ويمكن القول بكثير من الاطمئنان إن عبدالقادر كان ناقداً «جماهيرياً» ابتكر صيغته الخاصة في التواصل مع الجمهور العام من دون إهمال للنخبة. وساعده على ذلك أنه بدأ ناقداً صحافياً جاداً يتابع الأعمال المسرحية خلال عمله سكرتيراً لتحرير مجلة «المسرح»، لكن دوره الرئيس تبلور خلال السنوات التي أشرف فيها على الملحق الأدبي في مجلة «الطليعة» التي كانت تصدرها مؤسسة «الأهرام» وتعبر عن «اليسار». وفي هذا الملحق بلور حضوره الذي رافق بقية سنوات عمره، وفيه أفسح المجال أمام كتاب الستينات بمختلف توجهاتهم وفيه أيضاً خاض معاركه الأولى مع «السلطة» ومن داخل منابرها. فمن «الطليعة» بدأت الانتقادات ليوسف السباعي وزير الثقافة المصري الذي صاغ مشروع الثورة الثقافية المضادة لما انجزته ثورة تموز (يوليو) على الصعيد الثقافي. وكان عبدالقار هو الذي سمى السباعي «جنرال الثقافة المصرية» في إشارة دالة على أخطار عانتها الثقافة المصرية بعد «عسكرتها». ولفت إلى هذا المعنى أكثر من مرة في الانتقادات التي وجهها إلى مشروع تأسيس اتحاد كتاب مصر في بداياته عام 1976، وكان الراحل من أوائل الذين حذروا من النصوص المعيبة الموجودة في قانون الاتحاد والتي تجعله كياناً تابعاً لوزارة الثقافة وليس كياناً مستقلاً. ومن موقع المثقف الملتزم حافظ عبدالقادر على مسافة «آمنة» من السلطة ومؤسساتها، وكان يقول لي «عندما اكتب مقالاً، لا بد أن أؤمن أنه قد يكون المقال الأخير، لذلك لا أتردد أبداً في قول الحقيقة».

ومن المميزات التي حفلت بها كتابات صاحب «غروب شمس الحلم» أنها كانت تربط النص بالسياق فكان الراحل شغوفاً بالكتابة التاريخية إلى أبعد حد، وبدراسات علم النفس، ويعتز كثيراً بكونه تلميذاً مباشراً لمصطفى صفوان ومصطفى سويف. ومن مصادر الاعتزاز الأخرى في كتاباته حرصه الكبير على تعريف القارئ المصري بالكتابات الروائية العربية، سواء كانت نصوصاً مسرحية أو روائية. فمن جلسته الأسبوعية في مقهى «سوق الحميدية» في باب اللوق ومن كتاباته تعرفنا على نصوص سعد الله ونوس وعبدالرحمن منيف والياس خوري وحنان الشيخ والطاهر بن جلون والطاهر وطار وغيرهم من الكتاب الذين كانوا يعتبرون زيارة فاروق عبدالقادر محطة رئيسة في برنامجهم القاهري ومن المؤكد أنهم سيجدون قاهرة أخرى في غياب الناقد الذي كان يصف نفسه دائماً بـ «الكاتب الحر» الذي يكتب وأجره على الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*شاعر وناقد مصري

مقالات من نفس القسم