الفلسفة في القصص المصورة..عودة فارس الظلام تنعش النقد الثقافي الجديد

باتمان والفلسفة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

إبراهيم فرغلي

بينما لا نزال نرى في فنون القصص المصورة والكوميكس عالما لا يصلح سوى للأطفال، يستلهم الحكايات والتراث وبعض الخيال، فإن هذا الفن قد بلغ آفاقا سباقة في الغرب، وخصوصا في الولايات المتحدة التي تمتلك مملكة كبرى تقوم على صناعة القصص المصورة. مملكة تضم مئات الكتاب والرسامين والفنانين ومحركي الصور والناشرين والملونين وغيرهم. وتمكنت من تنويع الموضوعات لكل ما يمكن ولا يمكن تخيله، واستهدفت شرائح عمرية متعددة لعل غالبيتها اليوم لا تنتمي لفئة الأطفال كما هو شائع لدينا، خصوصا وأن عالما واحدا مثل عالم الأبطال الخارقين سوبر مان وباتمان وغيرهم الذي انتقل من الكتب المصورة للشاشات العملاقة، وألعاب الفيديو وغيرها من الوسائط مؤثرا ومتضمنا لعالم خيالي لكنه يقدم روافد للأفكار الأخلاقية والفلسفية والسلوكيات البشرية.

لكن الأمور حين تؤخذ لمداها الأقصى تأخذ بطبيعة الحال أشكالا مختلفة عن التصورات الأولى التي تسببت في ابتكارها، وهذا ما حقق لهذا الفن أن يغدو صناعة ضخمة تنتج فنونا ومدارس فنية في الرسم والكتابة والتلوين، وفي صناعة الكتب، وفي إخراج الكتاب المصور، ومع التراكم المستمر لهذا الإنتاج الهائل يعد اليوم بين أبرز ما أضافته هذه الصناعة للثقافة في الغرب أنها فتحت مجالا نقديا مبتكرا يخص نقد القصص المصورة وتأمل هذا المنتج فلسفيا وفكريا وأسلوبيا.  كما هو الأمر في كتاب مثل “باتمان والفلسفة.. الخوض في روح فارس الظلام”، وهو الاسم الرائج لشخصية باتمان.

الكتاب بعنوان “باتمان والفلسفة”، وله عنوان فرعي هو: الخوض في روح فارس الظلام. ومن الجميل أن الكتاب قد صدرت له ترجمة عربية أخيرا أنجزها المترجم العراقي المجتبي الوائلي، عن دار نابو للنشر والتوزيع.

الكتاب ينتمي للدراسات الثقافية ما بعد الحداثية، ويتضمن مشاركات 20 باحثا وناقدا، وقام بتحريره وإعداده كل من مارك د. وايت، وروبرت آرب.

يقدم الكتاب محاولات متتابعة لتأمل الحكايات والشخصيات لأبرز القصص المصورة التي تناولت شخصية باتمان، سواء كان فيها بطلا أو بوجود الأبطال الخوارق الآخرين وخصوصا سوبرمان، أو أي من مجموعات الخوارق.

يتناول مؤلفو الكتاب، وهم جميعا، وعددهم عشرين كاتبا، أساتذة في الفلسفة وعلم الأخلاق في جامعات أمريكية مختلفة، المسائل الفلسفية والأخلاقية التي تفرضها الوقائع أو المضامين التي تناولتها القص المصورة التي شارك الرجل الوطواط في بطولتها.

أسئلة من قبيل الموقف الأخلاقي في حال منع الجوكر من تنفيذ جريمة قتل مثلا، والاكتفاء بعقابه في المصحة بدلا من قتله. فهل هذا الموقف للرجل الوطواط أخلاقي؟ هل اعتقال الجوكر سيمنع من هروبه مرة أخرى والعودة للجرائم الشنيعة التي يقوم بارتكابها؟

ثم على مستوى آخر، وفي فصل آخر يطرح السؤال حول طبيعة المسؤولية الأخلاقية حول يقوم به الجوكر من أعمال لا يمكن وصفها إلا بالوحشية والتمثيل بضحاياه بدم بارد، فهل يمكن اعتباره مسؤولا عنها أم أنه مجنون أو مختل عقليا وبالتالي فلا يتحمل مسؤولية أفعاله كما هي نظرة المجتمع للمجنون؟ وما تفسير الضحك الذي يمارسه الجوكر وهو يمارس جرائمه الوحشية؟ ما الرسالة التي يتبناها هذا الفعل المستفز؟ وللإجابة بطبيعة الحال يتنقل المؤلف حول نماذج من سلوكيات الجوكر وتحليلها نفسيا، وثمة أيضا إشارات لدراسات مهمة حول موضوع الجنون بينها الدراسات الشهيرة لفوكو حول الموضوع. وثمة خلاصة ترى أن الضحك في التحليل النهائي دليل على أن الجوكر فاقد تماما لإرادته الحرة وبالتالي فهو ليس مسؤولا عن أفعاله.

وهنا ينتقل سؤال المسؤولية الأخلاقية لطرفين: السلطة التي لا تستطيع وقف الجوكر عند حده، وباتمان طبعا بسبب الكيفية التي يتعامل فيها مع الجوكر وموقفه الثابت بأن كبحه ومنعه يتوقف عند إيداعه المصحة وليس قتله.

ثم نجد فصلا يتأمل فعل الكراهية عند باتمان أو الرجل الوطواط، فإذا كان المفترض أنه يلاحق المجرمين والاشرار، ويسعى ليخلص المدينة من الجريمة والشر، فما هي مشاعره تجاه هؤلاء المجرمين؟ أهي الكراهية؟ فكيف يكون للكراهية محل في مشاعر هذا المخلوق الخير؟

أو مثلا بالنسبة لعلاقة الرجل الوطواط بابنه روبن هل يتمتع كأب بالقيم التربوية الحقيقية التي تجعل منه أبا نموذجيا؟ وما هي القيم التي نقلها للابن في ضوء الخلافات على تقييم مواقفه هو من بعض الأخلاقيين، لأنه يمارس العنف أيضا مع بعض المجرمين.

ثمة نقاش آخر حول مخاوف باتمان من الأساس، فهو في الأساس محقق، يتعرض أبواه للقتل في طفولته، وفيترك الأمر أثرا عميقا في روحه لكنه أيضا يقرر ملاحقة القتلة، ليس قتلة أهله فقط بل والقتلة في كل مكان. ولكنه في الأثناء يدرك أن المجتمع في مدينة جوثام قابل في أي لحظة لأن يتحول للفوضى، لأن النظام لا يتمكن من القضاء على الجريمة، ولهذا أيضا تبدو أهمية وجود الشخصيات الخارقة في جوثام، لمساعدة العدالة.

لكنها دائما متهمة بالتقصير، وهو ما يمنح الفرصة بين آن وآخر لسيادة الفوضى التي تعني سقوط السيطرة، وتحول السلطة إلى يد المجرمين.

هنا يظهر نيتشة في تصوره عن الدولة، التي تريد وفق ما يرى أنها تريد أن تتحول إلى صنم. لكن هذا الفرض يقودنا لبحث كيفية تكون الدولة من الأساس؟ وسنجد أنها تنظيم يلجأ إليه الناس هروبا من الفوضى، لكن الدولة بعد أن تستقر وفق نيتشة تبتغي أن تحول الأفراد جميعا ليكونوا أشباها لها.

وفي كل مسألة مما سبق الإشارة إليه قدمت ملخصا وجيزا لفكرة يتم تناولها في فصل من فصول الكتاب، الذي يقوم كاتبه بالتمثيل بنماذج من القصص المصورة أو الأفلام المأخوذ عنها. ويتم إخضاعها لأفكار فلسفية مختلفة ومن ثم يتقدم الكتاب من فكرة لأخرى: هل فارس الظلام دائما على حق، العدل والقانون، المسؤولية الأخلاقية، الدور الاجتماعي للدولة، إدارة جوثام، ثم أزمة الهوية لدى باتمان نفسه، أو وطواط أم هو المحقق برواس واين؟ أهو ضحية مقتل والديه في الطفولة أم أنه يشارك المجرمين أحيانا العنف من أجل التخلص من خصومه؟ ثم الصداقة أيضا في علاقته بسوبرمان كيف تناولتها القصص المصورة؟ وكيف يمكن استخلاص مفهوم الصداقة من هذه العلاقة؟

كتاب مختلف في طرحه، وكاشف للكيفية التي يمكن أن تطرح به الثقافة الشعبية أسئلة عميقة جدا إذا تحلى الكتاب بالوعي اللازم، وتمكنوا من أدواتهم، خصوصا وأن كتاب هذه القصص من البارعين في المجال خصوصا بعد قيام الكاتب فرانك ميلر بتأليف “عودة فارس الظلام” (1986) وفيها قام بإعادة شخصية باتمان لحيويتها؛ وهي السلسلة التي تحكي قصة باتمان في عمر 55 سنة بعد اعتزاله محاربة الجريمة في مستقبل محتمل الحدوث. وبالفعل، لقد نجحت سلسلة عودة فارس الظلام ومنذ ذلك الوقت أصبحت واحدة من أهم سلاسل القصص، كما أعادت هذه السلسلة شعبية الشخصية بين جماهير القراء.

والأهم أن هذا الفن يقدم نقدا ذاتيا عنيفا للمجتمع الأمريكي بشكل غير مباشر، من خلال القصص التي تحذر من الفوضى في حال استمرار الجريمة في المجتمع والانشغال عنها بإثارة أزمات خارج المجتمع الأمريكي وهو ما يمكن أن نراه بوضوح في سلسلة الكتاب المعروف باسم اللاعدالة Injustice.

نتمنى أن يكون هذا الكتاب ملهما لنا ثقافيا وعلى مستوى صناعة كتب القصص المصورة، فباتمان شخصية ابتكرت ونشرت قصته لأول مرة عام 1939، أي أنها اليوم تقارب على الثمانين عاما، ولا تزال تتطور وتلهم وتؤثر وتغذي صناعة الترفيه والسينما والنقد الثقافي أيضا.

 

مقالات من نفس القسم