غموض أنثى

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 101
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

علقمة بونار

كانت تقف بركن قصي بمكتبة فرنكفونية؛ تتصفح كتابا ما؛ تصدع أحيانا بجمل من الكتاب؛ غير مبالية بأحد؛ يبدو أنها تَطرب فلا تكترث بمن حولها. يحدث هذا مع الجميع؛ قد تنتشي لمقولة أو أغنية؛ فتطلق العنان لمشاعرك تنساب مع الحدث انسيابا؛ متجاهلا ما يحيط بك؛ فانيا عنهم بتعبير سادتنا المتصوفة.

يبدو أن السيدة لويس صاحبة المكتبة؛ لاحظت انزعاج حجاج المكتبة؛ من تصرفات الشقراء التي ظهرت مشدودة إلى كتاب تقلبه بين يديها؛ وكأنما هي تتفقد جوهرة ثمينة عثرت عليها بعد بحث طويل؛ فقررت تشغيل الموسيقى التي أضفت على المكان جواً قدسياً ساحرا؛ يسافر بك إلى قرون ضاربة في التاريخ؛ خصوصا مع تعالي مقامات “إيديث بياف” التي لا تترك مجالا لتجاهل هذه اللحظة..

أمضيت لحظات بالمكتبة؛ وقعت يدي خلالها على بعض الكتب؛ قصدت السيدة لويس لأدفع ثمن الكتب.

وضعت الكتب على الرف بالقرب منها؛ وانزحت جانبا أبحث بين المجلات عن جديد؛ لكني تفاجأت أن الشقراء تضع يدها على كتاب من مقتنياتي؛ وتحدث لويس بكلمات لم أتبينها؛ لكن إشارة السيدة نحوي، أوحى إلي بما دار بينهما؛ اقتربت من الرف لتبادرني الشقراء بتحية يملؤها الحماس والشغف، بادلتها التحية؛ وقبل أن أتم كلمات التحية كانت قد انطلقت في سرد نبذة عن الكتاب؛ وأنه من أحب الكتب إليها وإني محظوظ بهذا الاقتناء. لحظتها بدا لي حديثها هذا جزءا من حديث عاملات المتاجر اللائي يحرسن على جلب أكبر عدد من الزبائن؛ وقبل أن أطرد هذا الخاطر عن ذهني، طلبتْ مني أن أقبل الكتاب هدية منها؛ رحبتُ بالطلب. تبدو خطوة حسنة.

كلنا لديه كتاب مفضل؛ وكاتب مفضل؛ وذكرى مفضلة. هل علي أن أهديها كتابي المفضل؟ وأنا منتوف الريش ليس في جيبي ما يسد رمقي ليلتي هاته!

شكرتها على جميلها؛ ورميت لها بكلمات خلتها مهذبة عن مبادرة كهاته؛ وأني سعيد بهديتها وعملها هذا؛ وأنه حدث يستوجب علي أن أدونه بصدر مذكراتي لأهميته.

فتحتْ الباب أمامي وفسحتْ لي لأسبقها خارج المكتبة؛ وتبعتني مغلقة الباب الزجاجي؛ ذا الرنة المتميزة؛ التي تشبه رنة أجراس كنائس كاثوليك الشرق.

في الشارع صافحتني بعدما قهقهت بضحكة متمردة:

-نسيت إخبارك اسمي. أنا ثرثارة إلى حد كبير؛ أتقبل بصديقة مثلي؟

-لا يهم معرفة الاسم؛ بقدر معرفة المسمى. قلت لها ذلك وأنا أحاول تجنب ذكر الأسماء. إن غرابة اسمي تجعلني أنفر من هكذا حالات.

-نعم؛ الأسماء مجرد علامات تميزنا عن غيرنا. لكن تذكر؛ أن لكل منا حظ من اسمه.

-أمر مأكد؛ فأهلونا عندما سمونا كانوا يأملون شيئا من وراء ذلك؛ فمثلا: سعيد؛ لن يكون قصد من يسمي ابنه به إلا ليكون سعيدا!

-آه؛ نعم؛ أيمكنني فهم أن اسمك سعيد إذن؟

-مجرد مثال؛ لست سعيدا ليكون اسمي كذلك.

-وما اسمك إذن؟

وقعت فيما أكره. ليتني اكتفيت بسعيد!

-اسمي (..)

نطقت الاسم وأنا أمط الكلمات مطا؛ راجيا أن تلتقط الاسم مرة واحدة لكيلا أضطر لإعادته مرات أخر.

-اسمك جميل؛ سريع الالتصاق بالذهن.

-يبدو أن اسمي له حظ مني؛ فأنا أيضا كثير الالتصاق مثل أبي بريص.

وتعالت ضحكاتنا معا؛ وبعدما تجاوزت معضلة اسمي؛ سألتها بجرأة أكثر هاته المرة على طريقة محققي مخافر الشرطة:

-اسمك؟ نسبك؟ عمرك؟ عنوانك؟

رفعت يمناها إلى السماء؛ وقالت:

-أقسم بالله أن أقول الحق.

وتعالت قهقهاتنا من جديد. لافتة انتباه المارين حولنا؛ بين ممتعض؛ ومستطرِف لحركاتنا السعيدة.

مرت ساعات ونحن نسير على غير هدى؛ لم نشعر بالوقت ينسحب من بين أيدينا؛ ولم نشعر بمرور اللحظات سراعا؛ تارة كانت تتولى قيادة الحديث. تسألني فأجيب؛ ثم تعلق وتستفسر؛ وتارة كنت أسألها فتجيب بتفصيل؛ كنت أستعذب طريقة كلامها كانت تجد السرد بطريقة ساحرة؛ يبدو أن لديها عمَّةً مذهلة أو جدَّةً تقص عليها الكثير من القصص؛ وهذا ما ولد لديها هذه القدرة على الحكي؛ وأكسبها موهبة خطابية مؤثرة.

نعم؛ كل الذين يجيدون الحكي والسرد المسترسل؛ وراءهم امرأة بارعة في حكاية القصص وأخبار السابقين.

كانت الشوارع لحظة تجولنا تضج بالناس؛ لكن بعد سيرنا الطويل بدأت الناس تنفر إلى بيوتها؛ فاصطحبتها إلى موقف الحافلات حيث ودعتها.

تبادلنا العناوين وتواعدنا على لقاء قريب.

قفلت راجعا أبحث عن سبيل إلى بيتي؛ والسعادة تغمرني من كل جانب.

كنت أحس أني ملكت الكون كله؛ استطعت أخيرا الحصول على كيفية الطيران؛ لست في حاجة للقفز من علُ مثل ابن فرناس؛ ولست في حاجة إلى تصميم هيكل مروحة مثل دافنشي؛ وإنما يكفي أن تجد أنثى مجنونة لتحلق عاليا مثل النوارس.

بت ليلتي سعيدا كأنما تجاوزت العقبة وبشرت بالجنة. استيقظت صباحا على أحلام مؤرقة أفسدت علي نومي الذي خِلت أنه سيكون هنيئا؛ لكن تجاوزت تلك الأحلام واعتبرتها توافه، أمام هاته اللحظات السعيدة التي تبعث النفس على نكران الشر وتجاهل كل من يدعي وجود قرح في الدنيا. مضى اليوم إلا ثله واقترب وقت الغروب؛ كنت أنتظر هاته الساعات على أحر من الجمر؛ لم أقم اليوم بشيء يذكر؛ لم أقرأ؛ لم أكتب؛ ماذا فعلت؟

كنت أنتظر المساء لألقى تلك الشقراء التي انتظرتها طويلا وتخيلت مثيلاتها طويلا وقرأت عنها في الروايات كثيرا؛ ولما وصل المساء. اتصلت.. الرقم غير مشغل؛ بحثت في الفيس بوك؛ ليس ثمة حساب بهذا الاسم.

-يإلهي أي فاجعة أعظم من هذه؟

أين غاب ملاكي المرتقب؟

أترى مكروها أصابها أم أنها كانت تقوم بدور تمثيلي لغرض ما؟

لماذا هذا الغموض؟ لم تأخذ مني شيئا فلماذا أتت إلي إذن؟

وبدأت أسئلة كثيرة تطفح على ذهني..

أصبت بدوار؛ فقدت القدرة على التركيز؛ والرغبة في الأكل؛ كما النوم؛ مضت أيام لا تفكير لي إلا فيها؛ قرأت الكتاب مرات أبحث بين ثناياه عن إشارات تسعفني في فهم شيء من حركاتها.

لم أجد شيئا ولم يُفتح علي بشيء.

مضت أيام؛ شهور؛ أعوام..

وفي إحدى المرات؛ وكنت قد نسيت تلك الحادثة التي مر عليها ثماني سنوات ربما؛ وبينا أنا أتجول في مدينة ما وفي محل تجاري ما؛ لمحت صورة عادت بي إلى الوراء إلى أين؟

لا أذكر!

فتاة ذات شعر أشقر مجعد؛ تقف إلى جوار رجل يشبهها؛ إنها هي؛ هممت بالاقتراب منها؛ اتجهت بيدي إلى كتفها؛ لكني انثنيت؛ مخافة أن يحدث مكروه؛ لم تكن قد رأتني؛ كانت تقف إلى جانب الرجل رابطة الجأش؛ غير مكترثة بما حولها؛ كما عهدتها. حركات جسدها توحي بأنها ما تزال محتفظة بحيويتها؛ وخفتها.

تضرب بقدمها اليمنى على الأرض وتحرك شفتيها بلحن ما.

وعلى حين غرة؛ غمزها الرجل بيده فتبعته إلى الخارج؛ كنت أقف هناك محاولا فهم هاته الظاهرة؛ هممت بمناداتها؛ لكني تفاجأت أني لا أعرف اسمها؛ فصِحت عاليا:

-هاه.. آآآ.. يا أنت.

لم تلتفت؛ ولم يكترث لأمري أحد؛ يبدو أن سكان هاته المدينة لا يكترثون بمن لا يعرفون؛ إنهم متحضرون. أو هكذا يبدو.

وانصرفت مشغول الذهن باحثا عن سبل لفهم عبثية الصدف؛ أو لعبة القدر.

وفي المساء؛ وبينا أنا منهمك؛ في كتابة فصل أخير من رواية سيكون مصيرها الإتلاف؛ رن الهاتف.. رقم مجهول:

-السلام عليكم.

فيجيبني صوت أنثوي رخيم؛ لم تنكره أذناي:

-وعليكم السلام. يبدو أنك ما زلت تذكرني؟

-الذين يرحلون بصمت؛ يظلون في الذاكرة..

-لم أرحل؛ وإنما حدثت معي أحداث أرغمتني على التواري.

-ولماذا عدت فجأة؟

-الذين يرحلون فجأة يعودون فجأة.

وهمست بضحكة توحي بالخجل.

-هكذا إذن؟ أتعلمين أني لم أصادف أنثى بهذا القدر من الغموض والمفاجآت؟

-لم تصادف أنثى إذن.. الأنثى كائن غامض. ليس بالإمكان فهمه. أو لعل تجاربك مع الأنثى قصيرة.

-كل ذلك ممكن. دعينا من كل هذا. هل لنا أن نلتقي؟

-ليكن اللقاء مساء الغد.

ولم يكن اللقاء أبدا. فقد اختفت مرة أخرى. 

مقالات من نفس القسم