كناري

كناري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

اتفقا أن يكونا في نهاية السرب حتى تتاح لهما فرصة مواتية للهرب، في البدء خشى أن لا تفهم زقزقته، لكنها لم تُخيب أمله، فهمت مقصده فور أن بدأ تغريدته، خففا من سرعتهما حتى يتخلفا عن السرب المحلق بعيداً، تباعد السرب رويداً رويداً حتى بدأ في التلاشي تماماً، وأصبح نظرهما الكليل غير قادر على متابعته.

حلقا لمسافة بعيدة، أرادا أن يشعرا بحريتهما دون قيود أسراب الطيور الأخرى، هربا معا ًمن عيون متطفلة تسعى لهتك لحظتهما المتفردة، شعرا بامتلاك السماء وانها لهما وحدهما، بجناحيه المتناهى الصغر استمر فى صعوده حتى ظن أنه ملامس لخيوط الشمس، تبعته هى الاخرى دون كلل، طارا كل منهما محاذى للآخ ، جناحاهما يتلامسان فى حنو، يسعى كل منهما لاحتواء الآخر بجناحيه، للاندماج للتوحد ليصير المثنى مفرد، باركت الشمس امتزاجهما، فتوهجت ليشهد نورها بداية جديدة لهما.

بعد أن أدركهما الوهن رغبا فى الراحة ، بحثا عن غصن شاغر، لم يطل بحثهما، بين فروع الاشجار المثناثرة اكتشفاه، كان غصناً متماسكاً بين فروع شجرة كافور عالية، تأكدا من متانته وأمان موقعه من هجمات غير متوقعة من الأفاعي، بدأ فى نشاط بناء عشهما ليثبت جدارته باستحقاقها، بمنقاره القصير يلتقط  القش الملقى على الاغصان المجاورة، أراد أن يكون عشاً مغايراً عن كل الأعشاش الأخرى التى شاهدها، ليس فقط فى أساسه الجيد، إنما فى أمنه وقدرة احتماله للبيض المنتظر، فى غمرة انشغاله ببناء العش، لمح حبة مُهملة، رغم إحساسه الضارى بالجوع ، التقطها بخفة بمنقاره وسكبها برقة داخل فمها، استقبلت الحبة بلهفة، عند الاستجابة أيقن من قبول الدعوة، وشرعت تساعده فى بناء العش.

على غير المألوف اندفع يساعدها بهمة فى بناء العش رغم دورها الرئيسى بل والأوحد فى البناء بعد أن قبلته رفيقا، بدأ شدوه بحنو ثم تتابع فى نغمات فرحة، أوشك البناء على الانتهاء، لم يتبق سوى قدر هين، على الأرض كانت ترقد متربعة، قطعة قش كبيرة إلى حد ما، والعش لا يكتمل دون غيرها، رفرف بجناحيه نحو الارض، حط بالقرب من القش، أوشك على الاقتراب من القطعة المبتغاة، لمست أقدامه قطعة القش، انحنى ليلتقطها بمنقاره، فقد القدرة على رفع رأسه مرة أخرى، أدرك وقوعه فى الفخ، وأن القطعة لم تكن سوى مصيدة، كانت القشة مغطاه بطبقة لاصقة، فشل نظره الكليل فى اكتشافها، أخفق فى تحريك جناحيه، أيقن من رسوخ صيده، و تسرسبت نغماته الشاكية .

التقطت أذناها نغماته ، أدركت اختلافها عن نغماته الأخرى، نظرت نحوه بعيون ملؤها الدموع، تتقافز يمينا ً ويسارا ً، تشتت احتارت ماذا تفع ، همت بالطيران نحو ، أطلق نغمات تحذيرية، لم يفهمها سواهما، امتثلت لنغماته الاَمرة  بنفس كسيرة .

لم يقو على الانتظار أكثر من ذلك، اتجه نحوه، وبحنكة صياد ألتقطه بيده الكبيرة وأسكنه داخل القفص، كان الصياد فرحا ً بصيده، كنارى مثله نادر بلونه الاصفر المتداخل مع اللون السماوى ، كلما ازدادت نوبات حزنه كلما غرد بعذوبة ، سار محتضنا ً القفص، وابتسامة كريهة تعلو وجهه، لم تقو الانثى على متابعة المشهد من بعيد، طارت فى اتجاهه ، تحط من شجرة الى أخرى حتى تتمكن من رؤيته ، عزمت ألا تعود من دونه .

مطلا على الشارع  كان القفص معلقا ً متدلى من سقف الفراندة ، أسواره متداخلة قريبة من بعضها البعض، لا فرجة ولو يسيرة تسمح له بالهرب، أدركه حزن مقيت بعد قصقصة  ريشه ، لم يجد سوى نغماته الشجية تؤنس وحدته، أدرك الصياد بلوغ هدفه عند إنصاته لتغريده، أحكم إغلاق القفص حتى لا يفقد كنزه .

اليوم تلو اليوم وحزنه يكاد يقضى عليه ، يئس من العودة ، استمر فى الشدو برهافة ، فى البداية لم يصدق عينيه ، ظنها أوهاماً، تيقن من رؤيته لها عند اقترابها ووقوفها على الشرفة ، لم تشأ الاقتراب أكثر خشية الوقوع فى المصيدة وبذلك تفشل فى ما عزمت عليه، استولت عليه الغبطة، أطلق نغماته مرحبا ً بها، قرب وجهه من أسوار القفص، يسعى لايلاج منقاره بين فرجات الاسوا ، خشيت أن تقترب رغم دعوته لها بالدنو، فضلت المكوث فى مكمنها تتابعه بشغف مفعم بالوجل.

تتابعت زياراتها منتظرة معاودة ريشه فى النمو، فى البدء كان الخوف يحتويها، ثم انتابتها الجرأة مع التكرار ، أدركت أثر زيارتها على رفيقها، تؤنس وحدته الموحشة، فى نشوة زيارتها لم تنسى هدفها الأهم، الا تعود لعشها من غيره ، التقطت عيناها حدود القفص، اسواره المقوسة ، ساعات وجود الصياد، لحظات إدخال الطعام فى جوف القفص، لم تهمل تفصيلة الا وتابعتها بعين متفحصة. أوشك ما صبرت على اكتماله أن يكتمل .

ترنو إليه بعينيها، ادرك أن ثمة ما يجول بخاطرها، يوقن من عدم قدرتها على التغريد، باحت له بما انتوته، خشى عليها من خطر محدق قد يودى بهما معا ً، كانت نظرة واحدة كفيلة بطمأنته .

انتظرت بصبر شائك أن تحن لحظتها، تقدم الصياد بخطوات ثابتة نحو القفص ممسكا ً طبقاً مملوءاً بالحبوب، التقطت أصابعه الطويلة مزلاج القفص، نظر الذكر نحو باب القفص بعيون مشتهية ، تسارعت دقات قلبه ، تكاد تحطم جسده الصغير الهش، بغتة طارت تجاه القفص مصوبة جناحيها الصغيرين للطبق ، سقط الطبق محدثا ً ضجيجا ً متصاعدا  ، استولت عليه دهشة ممزوجة بحيرة ، ارتبك هل يسارع بإغلاق القفص أم يسعى لالتقاط الانثى الطائرة ؟ ، لم يفق من دهشته حتى خرج الذكر من محبسه فى أقل طرفة عين .

كانت الأنثى تقف على سور الشرفة متابعة سير المعركة بخشية مفعمة بالاضطراب، أن يضيع مجهودها دون مقابل، حط الذكر بجوارها أخيرا ً، فرحة عميقة سكنتهما، بشوق لامس منقاره منقارها، وقبل أن يذوبا معا ً كانا طائرين ولم ينسيا أن يلقيا نظرة أخيرة على الصياد الذى تابعهما بحنق باد.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون