محمد الهادي الجزيري
هذا الكتاب طافحٌ بحبِّ الآخرين، ملمٌّ بنخبة منهم قدَّمت حيواتهم ومجهودات جسيمة في مجال الشعر والرواية والأدب عموما..، لذا مسَّني بقوَّة، فأن يقوم مبدع بمثل هذا العمل.. يدلُّ على حبِّه لكلِّ الذين ذكرهم.. ويؤكِّد أنَّه ذاكرة تضمُّ عشرات الشعراء والروائيين ممَّن تركوا بصماتهم على الطاولة..، إنَّه عمل يُخلِّد من كانوا معنا، قام به نمر سعدي.. مشكورا على جمعه لمقالاته المكتوبة من سنة 2005 إلى سنة 2018 وإصدارها في هذا الكتاب.
افتتح هذا المتن الحميم بقامة شعرية عظيمة ألا وهي عبد الرحمن الأبنودي وذكر علاقته بأمِّه مشيرا إلى الكثير من الشعراء ممَّن كانت لهم أواصر القربى متينة مع أُمَّهاتهم، مثل محمود درويش ومحمد القيسي وبدر شاكر السياب وأمل دنقل.. وأنهى التفاتته إلى هذه الحالة النادرة في الشعر الشعبي العربي بأن قال:
“الشاعر هو ذلك الطفل الذي لا يهرم روحيَّا والمحمَّل بكلِّ خطايا المدن ومرايا الرفض وشهوات الحياة ونزواتها وليست الأمُّ سوى الأجنحة الرحيمة البيضاء التي يأوي إليها طائر الشغف والألم كلَّما حاصرته قسوة القدر.. أو تاه في السراب” .
العديد من المبدعين مرُّوا بذاكرة نمر سعدي، مثل محمد الفيتوري فقد أدرجه في خانة “آخر العشاق المتجوِّلين” وأسهب عليه المديح الذي يناسبه وممَّا ذكر من خصاله:
“كان الفيتوري نسيج وحده وكان ذلك الشاعر المخلص لقصيدته إلى أبعد حدٍّ..، وهو متمَّرس بكتابة قصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية.. وأنا أجد نفسي مشدودا في أحيان كثيرة لقصيدته العمودية التي يحسن دوزنة موسيقاها وانتقاء مفرداتها مع كثير من المحبَّة والإعجاب بقصيدته التفعيلية..”
وفي ختام حديثه عن الراحل الكبير.. استشهد بمقطع من قصيدته عن إلياس أبو شبكة في ذكرى الخمسين لوفاته.. لا يمكنني أن أمر بها دون أن تستوقفني :
” برق هو الشعر ..طفل سابح أبدا
بين المجرَّات..مجنونٌ ومكتئبُ
فكيف لي وأنا الطفل الذي انغرستْ
خطاهُ في الرمل..أن آتي بما يجبُ؟ “
من أفضال مثل هذه الكتب المفتوحة على أسماء وأعلام.. أنَّها تعرِّفك بمبدعين أفذاذ لم تكن تعرفهم..، مثل ذلك الروائي المذكور في هذا الكتاب تحت عنوان “تحديق بمرايا الذاكرة” وهو المبدع الراحل سلمان ناطور صاحب المتن الروائي المترجم إلى العبرية “ذاكرة” وأهمُّ ما شدَّني إلى عمله دقَّة وصفه لحالات الترحيل والنفي والتشرُّد في أصقاع الدنيا.. يا لها من نكبة حلَّت بالشعب الفلسطيني ويا لصبرنا على الأذى والجور…، ثمَّة حكاية سردها نمر سعدي عن الشاعر القوميِّ (أبو سلمى) الذي سافر إلى ألمانيا هربا من الظلم.. يقول الكاتب:
“سافر في سفينة ولكن مفتاح بيته بقي في يده ولم يسقط كما سقط دفتر أشعاره في البحر.. لأنَّه كان مؤمنا بعودته خلال أيام…”
ما أرحب قلبه الفلسطيني.. لكم اتَّسع لعدد كبير من المبدعين.. ومنهم الشاعر الراحل محمد الصغيَّر أولاد أحمد فقد خصَّص له حيزا من كتابه وعنونه “كان صديقا للفراشات” ذاكرا أنَّه كان يؤمن بتفرُّده شاعرا وإنسانا ومناضلا..، كما لعن المرض الذي ذهب به حيث لا عودة.. حيث الغياب المؤلم.. وقال نمر سعدي في أولاد أحمد:
” يبقى أولاد أحمد شاعر الوجع التونسي وحادي القافلة.. يبقى شاعر النبض الشعبيِّ ومحرِّك ماء البحيرات الراكدة، والفارس الذي أهدى تونس خضرة قلبه وقصائده”
إضافة إلى تكريم السابقين وتبجيل الكبار ثمة فصول عديدة يلتفت فيها نمر سعدي إلى الهمِّ الثقافي العام.. ويبوح بما يؤرقه في الساحة الأدبية من خفافيش اكتسحت جملة وتفصيلا المشهد.. ومنحها الفيسبوك وأدوات التواصل الاجتماعي فرصة لا تعوَّض للكتابة في كلِّ شيء..، وأعتقد أنَّه على حقٍّ في ما ذهب إليه..، على كلٍّ.. لا يبقى إلا الجيِّد والصحيح وما هذا الكتاب إلا دليل على صحة ما أقول… فجمع كلِّ هؤلاء العظام والاحتفاء بهم وذكر خصالهم.. أمر يُذكر فيشكر.