عندما يتوقف البصر يبدأ عمل البصيرة.. قراءة في رواية “لماذا لا تزرع شجرة”

لماذا لا تزرع شجرة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
الشربيني عاشور
في رواية أحمد شافعي الجديدة “لماذا لا تزرع شجرة”، والصادرة أخيرا عن “الكتب خان”، هناك رجلٌ مخطوفٌ، لا يعرف خاطفه، إلا أنه سيعرف السبب الحقيقي وراء خطفه. إنه سببٌ يبدو في ظاهره عبثيًا ولا معقولًا؛ فالخاطف لا يريد قتل المخطوف، ولا يريد فديةً مالية، ولا أيَّ شيءٍ سوى أنه يبحث عن إجابة لسؤال غريب سيكرره على المخطوف بصيغةٍ ثابتة، لا يطرأ عليها أي تغيير: “عشت أربعين سنة يا كامل، أربعين سنة على الأرض، أكلت وشربت وتزوجت، وصاحبت وأحببت وكرهت، مرَّ عليك أربعون صيفًا وأربعون شتاءً، جلست على البحر وسهرت على النهر، ولم تزرع شجرة قط. كامل، لماذا لم تزرع شجرة؟”. هذا هو السؤال إذن: لماذا لم تزع شجرة؟ يلقيه الخاطف بعد سلسلة من الجمل التبكيتية كأنه نكتة، وما هو بذلك!
كامل المنضبط حتى أنه يكاد يكون الوحيد الذي يحترم قواعد المرور في مدينة لا يحترم فيها أحد هذه القواعد. يبدأ محاولاته للإجابة عن سؤال الخاطف، تأخذه وتأخذنا هذه المحاولات في رحلةً جوانيةً يفتش خلالها كامل في حياته عن إجابة للسؤال، إجابة أراد الخاطف أن يَعْرِفها أو يُعَرِّفها للمخطوف نفسه. إلا أن الخاطف وبعد كل محاولة للإجابة، لن يطلق أيَّ حكم عليها بالخطأ أو الرفض، فكل ما يفعله هو أنه يعيد السؤال نفسه وبالصيغة ذاتها على المخطوف؛ ليبدأ كامل محاولةً جديدةً للإجابة.
هكذا يتكرر السؤال وتتكرر في إثره محاولات الإجابة، ما يعني أن الخاطف يمارس عملية توليد للأجوبة، بدفع كامل لمزيدٍ من الحفر في ماضيه والتوغل في اكتشاف حياته، عبر نسخ ما وصل إليه بما يتوصل إليه! وهنا يتجاوز مفهوم النسخ حدود الإلغاء أو التخطئة ليأخذ مفهومًا آخر هو التدرج في وعي الذات بذاتها، حتى يبلغ هذا الوعي منتهاه، بوصول كامل إلى الحقيقة التي يريد الخاطف معرفتها، ويريد للمخطوف كذلك أن يعرفها. وهي أن كاملًا عاش طوال الأربعين سنة الماضية من عمره عبدًا لكل التفاصيل التي ازدحمت بها حياته!
الوعي بالعبودية إذن، هو المجمل الذي يتشكل من كافة التفاصيل التي احتوتها إجابات كامل. إنه لحظة التكشف أو التنوير التي لابد أن يتبعها تمرد كامل على عبوديته، وتعاليه عليها حد التأله.
ثنائية الموقف والأداة
تبدو الثنائية ملمحًا أساسيا في الرواية، سواء على مستوى الموقف أو على مستوى الأداة، فمن البداية نحن أمام ثنائية “الخاطف والمخطوف” ، ” الداخل والخارج” ، “البصر والبصيرة” ، ” العبودية والتعالي” ، “العقلانية والتجاوز” و” اللغة تحت سيادة المنطق والوضوح والمباشرة واللغة تحت سيادة الشطح الصوفي والغموض الشعري والتكثيف المجازي”. وهذه الثنائيات جميعًا مدعومةٌ بثنائيةٍ أكبرَ على المستوى المعماري للنص أو بنية الرواية عبر تشييدها من طابقين أو طبقتين اثنتين: (1) و(2).
يختص الجزء (1) ويمكن أن نضع له عنوان “العبودية” بالمنطق والعقلانية وتجرى خلاله محاولات البحث عن أسباب عدم زراعة شجرة، وفيه يتميز السرد باللغة الواضحة والمباشرة. في حين يتميز الجزء (2) ويمكن أن نضع له عنوان “التعالي” بالتجاوز وتلاشي العقلانية، ويتميز فيه السرد بشَطَحِ اللغة وتكثيفها الشعري والمجازي. وهو ما يجذر للثنائية كملحٍ أساسي في الرواية ضمن ثنائية أخرى للقراءة هي “الموقف والأداة”، وما تحمله من دلالات فكرية وجمالية.
دلالات الأرقام
لن يكون الرقمان (1) و(2) وما يحملانه من دلالة وحيدين عند فحض الرواية؛ فأثناء محاولات كامل للإجابة عن سؤال الخاطف، يقفز الرقم (14) على الواجهة كتوظيفٍ تقني ضمن اللعبة الروائية في التعريف بحياة كامل، والوصول إلى حقيقة موقفه العبودي.
إن الخاطف لن يكف عن طرح السؤال حتى يبلغ عدد مرات طرحه أربعة عشر مرَّة، ومن ثم تصبح محاولات الإجابة أربع عشرة محاولة، فكما تكتمل استدارة القمر، ويبلغ الضوء قمة سطوعه في الليلة الرابعة عشر. يصبح الرقم (14) كذلك علامةً على اكتمال الإجابة عبر تراكمها وصولًا إلى لحظة التنوير باكتشاف كامل للحقيقة.
إلى ذلك يتقدم الرقم (40) الذي تضمنه سؤال الخاطف ليضع نفسه تحت مجهر القراءة: لماذا اختار الكاتب هذه السِن بالذات من عمر كامل، لكي تجرى محاسبته على عدم زراعته شجرة فيه؟ لا شيءَ يُفْتَرضُ أنه اعتباطيٌّ في عملٍ فني. غير أنني لن أشقى كثيرًا في البحث عن دلالة، إذ أنني سأكتفي بما وَقَرَ في الذهنية الجمعية من أن الأربعين هي السن المفترضة للنضج، وبلوغ قمة العمر التي يكون من بعدها النزول أو الانحدار. كما أنها السن المفترضة لبلورة تجربة البشر على الأرض، (نلاحظ قول الخاطف في السؤال “أربعين سنة على الأرض”). وفي هذا السياق ولا يمكن تجاهل ما يحمله هذا الرقم في كذلك من تكريس لمفهوم التطهير و التطهر، لقد كان رقمًا لتيه اليهود في الأرض، وقد واعد الله موسى أربعين ليلة للتطهير، واستمر الطوفان زمنَ نوح أربعين سنةً كي تتطهر الأرض. إذن، فلعل محاسبةَ الخاطفِ للمخطوف في الرواية لم تكن إلا لتطهيره من رجس عبوديته للتفاصيل واستعبادها له.
ملاحظات أخرى
لم تفصح الرواية عن شخصية الخاطف رغم حضوره القوي كمحركٍ للأحداث؛ ولذلك فإن احتمالات القراءة تنفتح على توحد شخصية الخاطف والمخطوف أو وحدتهما. ومن ثم يقودنا السعي وراء هذه الاحتمالية إلى أن الخاطف الغامض إنما هو ضمير المخطوف الذي انفتح على ذاته وانتهى إلى إدانتها أو إدانة عبوديتها. إنه الضمير الذي هو في أصفى مراتبه وعي الذات بذاتها، وعلاقاتها بما حولها في العالم. وهي احتمالية يمكن أن يدعمها التركيب اللغوي الثابت والمتكرر للسؤال على ذلك النحو الاستجوابي التأنيبي أو التبكيتي الذي تبدت عليه صيغة السؤال. ومن ثم تقودنا هذه الاحتمالية إلى التوسع في النظر إلى أن أحداث الجزء الأول من الرواية مجرد حلول في عقل المخطوف.
نقطة أخرى (ليست أخيرةً بالتأكيد في عملٍ شديد الكثافة والثراء كهذه الرواية القصيرة أو النوفيلا أو القصة الطويلة) وهي أن وصول كامل إلى الحقيقة التي أرادها الخاطف أو ما يمكن أن ندعوها لحظة التنوير تأتي ضمن مفارقة غرق كامل الكامل في الظلام التام، حيث أغلق الخاطف عينيه بعصابة محكمة، حالت بينه وبين أن يرى أي شيء في الخارج، لتنعكس رؤيته إلى الدخل؛ داخله الشخصي، وبتعبير آخر لقد توقف عمل البصر ليبدأ عمل البصيرة التي ستصل بالمخطوف وبعد سلسلة من الاكتشافات وتراكمات الإجابة إلى ثنائية “العبودية والألوهية”، فالناس إمَّا عبيدٌ وإمَّا آلهة. والعبودية والألوهية هنا مجازٌ رحبٌ يبتلع كل الثنائيات التي تحكم حياة الإنسان العبد ووجوده، من البساطة والتعقيد، الحب والكراهية، الضعف والقوة، الإذعان والتسلط، الهيمنة والرضوخ إلى آخره من الثنائيات وما يتعلق بها من التفاصيل.
أمَّا ما يمكن أن أختم به خواطري حول هذه الرواية، فهو أن السؤال الذي يوجهه الخاطف إلى المخطوف بصيغة استجوابية ثابتة، ستوجهه الرواية إلى قارئها عندما تضعه على الغلاف عنوانًا لها، ولكن بصيغة معدلة، تتخلى عن دلالتها الاستجوابية الحسابية “لماذا لم تزرع شجرة؟” إلى الغرض الحثي التحفيزي: “لماذا لا تزرع شجرة”. فبين الصياغتين وغياب علامة الاستفهام من على الغلاف، تتسع الهوة بين (لم) الجازمة التي تنفي المضارع وتقلبه إلى الماضي، وبين (لا) النافية التي تثبت النفي في الحاضر وتفتحه على الاستمرار في المستقبل، ومن ثم تتنكَّر الرواية في محاكمة الشخصية الرئيسية على إفراطها في العبودية لتستَنْكَر على القارئ تفريطه في التعالي.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي art 14
Uncategorized
موقع الكتابة

انتحار