عناكب

عناكب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كاميليا حسين


يحلق ذقنه النابتة كل صباح لتتساقط أرجل العناكب منها، تملأ الحوض وتسد بالوعة المياه، يخرج من الحمام بذقن لامعة ناعمة، ويترك لي مهمة تنظيف الحوض.

يشكو دائما من ذقنه التي تنبت أسرع من أقرانه، يمسك بكفي ويقربها من وجهه، أحاول أن أنفلت بلطف لكن كفه تطبق على كفي وتقودها إلى الذقن، تخترق أرجل العناكب بشرته لتلمس أطراف أصابعي؛ أقشعر، يضحك ويقترب ليحتضنني، تحتك ذقنه بخدي فأشعر بأرجل العناكب اللزجة، يظن أن ملمس ذقنه يثيرني فيحكها بخدي عامدا مرة أخرى، أتظاهربالضحك كي أستطيع الإفلات، أجري إلى الحمام ﻷفرغ ما بجوفي في الحوض، ويكون عليَّ أن أنظفه مرة أخرى.

لن يصدقني إذا أخبرته: صباح الخير، ذقنك لا تنمو بسرعة، لكن العناكب تُخرج أرجلها من داخلك، أنا أكره العناكب وأتقزز منها، أرجو ألا تقترب مني قبل أن تحلق ذقنك، وأن تنظف الحوض بعد الحلاقة.

بالتأكيد سيتهمني بالجنون، وربما يأخذ الصغيرة ويهرب بها من جنوني.

ارتديت ملابسي، أخبرته أني سأذهب مع الصغيرةإلى المنتزه القريب،قال أنه سيمر علينا بعد عودته من العمل،كان عليَّ أن أهرب من هذا الجنون لبعض الوقت.

تجري الصغيرة مسرعةإلى الأرجوحة، بينما أفضل الجلوس على  الأرض لمراقبتها، أخلع حذائي لتلامس الحشائش الخضراء المبتلة قدمي وتمنحهما بعض السكينة، أجلس وأحرك كفي على الحشائش ، كانت رطبة وطيبة، ترسم كفي عليها دوائر صغيرة، يدغدغ الملمس الندي كفي وكأنما يربت عليها.

أنادي الصغيرة، يخرج صوتي طيبا كما كنت أعرفه، تبتسم لي، أبتسم وألوح بكفي، وربما أبعث إليها بقبلة في الهواء.

كانت كفي تستند ساكنةعلى الأرض لكن إحساسي بحركة الحشائش تحتها مازال مستمرا، حركات خفيفة عشوائية تكاد تكون غير ملحوظة تدغدغ كفي وتربت عليه،تأملت الأرض، بدت الحشائش متساوية تماما لكن بعض التأمل يكشف عن نَسَقٍ ما، كانت الحشائش تنمو في مجموعات من ثمانية بينها مسافة ضئيلة لا يمكن ملاحظتها سوى بتدقيق النظر، تلتف قليلا حول نفسها لتشبه أرجل العناكب.

أعرف العناكب حين أراها، لقد ظهرت هنا أيضا، تتحرك بهدوء، بطريقة تبدو عشوائية، لكنني أدرك انتظامها الذي لا يراه أحد، أحاول القيام فلا أستطيع، التصقتُ بالأرض، أحاول أن أنادي الصغيرة، تصلب لساني داخل فمي كأنه من زجاج، أحاول أن أصرخ، تخرج الصرخات للداخل،أبتلع صراخي حتى أكاد أن أشرق به، أحاول تقيؤ الصراخ، فأتقيأ للداخل ليصير جسدي أثقل. تتسارع حركة أرجل العناكب من تحتي و حولي، أشعربالنسيج الناعم اللامع ينمو من حولي ولاأراه، أحاول دفعه بعيدا فيلتصق بكفي، تكتمل الشبكة حولي وتسحبني إلى الأسفل، لاأحاول المقاومة، أستسلم وأنسحب إلى الأسفل.. أسفل الحشائش.. أسفل الأرض.

تبدو الشمس أقل حدة فلا تؤلم عيني، رطوبة التربة تخفف من الحرارة، تبدو الأصوات واضحةفجأة: أصوات المدينة، الباعة البعيدين، النساء تضحك رغم كل شئ، بائع الآيس كريم القريب يستمع إلى موسيقى خفية، وصغيرتي تتحدث إلى أحدهم، أميز صوت أبيها يسألها عني

كانت تجلس هنا لاأعرف

أشعر بخطواته ضجرة ثقيلة تتوقف فوق جسدي، أميز حذاءه، وذراعه ترتفع بالساعة مرة بعد أخرى، ينظر حوله ويكرر سؤاله للصغيرة عن آخرمرة رأتني فيها، يأتيني صوته الضجرالمعتاد، ثم أميز في صوته بعض القلق، أفكرأن أختبئ هنا للأبد، أشعر بلساني يتحرك داخل فمي من جديد، أشعل زوجي سيجارة وأخذيدخن بتوتر، قررت أن أغني له لأهدئ من قلقه، لم يبدُ عليه أنه يسمع، لكنه أطرق فجأة ليتأمل ما تحت قدميه، ابتسمت له ورفعت صوتي أكثر، انحنى ليقترب من الأرض، مد كفه، حاولت أن أمد كفي لألمسه، لكن أصابعه امتدت إلى حذائه لتزيل عنه رماد السجائر الذي تساقط عليه. كان  كفه قريبا من الأرض، مازال طيبا كما كان رغم كل شئ، مددت كفي ﻷلمسه، أظلم العالم فجأة أمامي، اختفت الأصوات، أخذت أحاول دفع السطح بكفي، بلا جدوى، لم أكن أشعر بالوقت لكني أعلم أن الكثير منه قد مضى، حاولت أن أدفع أكثر، كفاي صارتا أكثر هشاشة،كانت تتحول ببطء إلى ثمانية أصابع هشة سوداء، لها ملمس مقزز، أخيرًا استطاعت أصابعي أن تنفذ إلى الخارج، كان السطح رطبا، وثمة رائحة معتادة تشبه رائحة زوجي،صوت صنبور مفتوح يأتيني واضحا، ونصل معدني حاد بارد يبتر أصابعي فجأة لتسقط في حوض الحمام.

تأمل ذقنه اللامعة الناعمة في مرآة الحمام، سيبقي السر داخله إلى الأبد، هل سيخرج في يوم ليخبرها:

صباح الخير، هناك عناكب تنبت من ذقني، كيف لم تلاحظيها من قبل، ستتهمه بالجنون وتأخذ الصغيرة وتهرب، لا يمكنه إخبارها أبدا.

يخرج من الحمام لتدخل هي، تسكب المياه والصابون في الحوض لتنظفه بأصابع مبتورة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 قاصة مصرية

مقالات من نفس القسم