اذكر انني في مرة قرأت منشورا على لسان تاركوفسكي (ثمة مخرج روسي عبقري)، يحكي فيه كيف اعترض النقاد بشده على كآبة واسى احد افلامه. حتى ان احدهم قد علق، كما اذكر، بانه “ظل يعاني طوال مدة عرض الفيلم”. إن هذه هي الخلاصة، انك مادمت ستقرأ لاحد الادباء الروس العظماء، ولا ادري ان كان هناك في عالم الرواية من يناددهم في العظمة، فستدفع ضريبة قرائتك آلاما ودموعا سخيه حارة. ستعض الارض، وستتمنى لو فقأت عينيك. ستحس بذلك الفزع يأكل في عروقك. سوف يتبين لك الكثير عنك وعن العالم الذي تعيشه، آلام وصراخ وبؤس وهجر في كل حدب وصوب، سيرتد إليك بصرك وسمعك، فتسمع الأنين في الغرفة المجاورة، وتستوعب الانكسار في عيني موظف يرتاد المترو إلى جوارك. ستفهم شيئا عن عجزك وانحسارك عن العالم فتتمنى لو ابتلعك مقعدك الوثير، القائم على اضلاع فقراء لا يقتاتون إلا الجوع. وهكذا، تقرأ فتبكي وتدور في متوالية دفعت الكثيرين من قبلك إلى الانتحار.
المهم، ان عليك ان تفقه ان ما انت بصدده، من آلام، هو شئ حسن، ضروري. لان، (كما تابع تاركوفسكي في المنشور ذاته) العالم الحديث، قد شهد اختلال رهيب في ميزاننا العاطفي. فحين نقرأ في جريدة عن ذبح مليوني شخص في اندونيسيا، فان الانطباع الذي يتكون لدينا متماثل تماما مع ذلك الذي تسببههزيمة فريقناالمفضل في المباراة: الدرجة ذاتها من الانطباع أو التأثر!!
هذا الطرح المثير، يشير إلى خطورة الوضع الراهن، ان العاطفه هي المتحكم الرئيس في قرارات الانسان، فماذا وقد فترت تلك العاطفة، وصارت الاعلانات هي سيدتها، إن هذا هو منبت المجتمع الاستهلاكي السخيف الذي نعيش فيه، وهو كذلك منبت استمرار الفقر، برغم تكدس الثروات العالمية. إن التعارض الرهيب بين مذبحة ومباراه، يشي بان تخمر العاطفة التي كان يجب ان تنبعث عن الأولى أدى إلى تفجر جنون المشاهد للثانية، مثل مرأة ترقص خرقا بعد ذبح ابنها امامها، تماما.
وهذا هو دور دوستويسكي والآخرين، انهم يجعلوننا نشعر بالحجم الحقيقي للاشياء. انه العبء الذي يحملونه طوال حياتهم، وعلينا ان نشكرهم على ذلك. فبرغم الآلام، شكرا، فتلك المآسي التي نقرأ مآسينا في الاصل، يحملها الكاتب الحق إلينا في رواية او فيلم كمرآة تكشف لنا عن جروحنا عسى ان نداويها.
أما ما اود ان احذر منه هنا، هو في الحقيقة امر سيكولوجي. يمكن استقراء اعراضه في حالات التحيز المختلفه، كـ تحيز الاختيار الرصدي مثلا. وهي تلك الحالة الخاصة من حالات التحيز التي تنتج مثلا عن معرفة جديدة، ملحوظة جديدة ترد إلى ذهن الانسان، تجعله يلاحظها بكثرة بعدما تعرف إليها، (مثال: المرأة التي تحمل لاول مرة، تُفاجأ بعدد هائل من النساء الحوامل يجبن الطرقات) (مثال: الشخص الذي يتعرف إلى نوع جديد من الطعام، يُفاجأ باعلانات وملصقات ومنشورات في كل مكان تُشير إلى هذا النوع) والسبب هو ان العقل بالعادة لا يحلل كل التفاصيل التي يتلقاها من البيئة، بل يكتفي يتحديد الضروريات(من وجهة نظرة) ويبدأ في تحليلها تحليلا يتناسب مع اهميتها له وهكذا. لذلك فالمرأة التي حملت لأول مرة، صار مشهد المرأة الحامل مهما بالنسبة لها، فبدأ عقلها يُشير إلى هذه الحامل هاهنا وتلك الحامل هنالك. فبالمماثله، ودون التعدي على النهج العلمي السديد، فمن يقرأ كتابا مؤلما حقيقيا، يتعرف لاول مرة على أمورا قاسية، فيبدأ عقله في متابعتها، وربما تُستهلك طاقته الذهنيه في ايراد كم هائل من الملاحظات عن الآلام التي كان يمر خلالها بشكل يومي دون ان يلحظ حتى وجودها.
لذلك، سرعان ما يتحول العالم في اعينهم إلى مكان مستوحش مظلم، لان التفاصيل التي باتوا يلاحظونها هي الكئيبة المؤلمة، ونسوا أن هنالك اشياء اخرى، ربما قليلة، غير مؤلمة إلى هذا الحد تستدعي التنبه والالتفات إليها، كي نحيا ونتماثل لمهمتنا الكبرى في هذا العالم.
فأنا لم اعد اميل إلى السوداوية والانكفاء على الذات. صحيح ان العالم محبط وفاسد، إلا انه على الدوام سيظل عالمنا، نصنعه ثم نتحسر على ويلاته، وكما يقول احد علماء النفس الفرويديين: “نحن بحاجة إلى موضوعات “سيئة” ونحن نخلقها إذا لم نجدها في متناولنا”. فالانسان هو المفسد والمصلح، ولا عليك يا من تستشعر آلام الغير بان تكتئب وتقنط، بل قم ولتحيا. دنيئا وطاهرا تماما كما يتاح لك. قم واصلح، وقم وانشر الخراب. هذا انت على الدوام. فقط ادعوك لان تكون ذكيا، خلافا لغيرك، لا تهتم بمشروع الدولة الجديد، وانظر برفق إلى ذلك الطفل المنكفئ على كراسته على جانب الرصيف، يتمنى ان تقوض له الدنيا ليفسد ويصلح تماما كاي انسان. وهكذا دائما، ابشر وداوم على البشارة.