د. محمد شداد الحراق
في شقة صغيرة هامشية بحي (الدرادب) الشعبي في مدينة طنجة، تكمن الغرابة وتسكن العجائبية ويستقر اللغز المحير. وحول ما يجري خلف باب الشقة الموصد دوما تتناسل الأسئلة وتتكاثر التأويلات وتحوم علامات الاستغراب والاستفهام. كنا صغارا نتلصص لعلنا نكتشف السر الذي حير الجميع. نسترق السمع لنتصيد فحوى بعض الحكايات العجيبة التي يرويها الناس. نختلط بكبار الحي لالتقاط تلك التأويلات الغريبة التي تتردد على ألسنتهم.
صار الجميع ينظر إلى السيد الغريب المقيم بتلك الشقة نظرة ريبة وحذر. كان بائعا متجولا يحمل كل صباح صينية معدنية مستديرة بها أكلة ( الكالينطي) الشهيرة بمدن شمال المغرب، فيجوب الطرقات والأحياء المجاورة. يقتطع قطعا صغيرة ليلبي طلبات الصغار الذين يعشقون تلك الأكلة. لباسه المهلهل المزركش التقليدي يزيده غرابة، وصوته الجهوري المدوي يميزه عن الجميع، حتى أضحى سمة لصيقة به تزيد الناس شوقا إلى رؤيته ورغبة في التقرب منه والتعرف عليه. سمّاه سكان المدينة ( صوت العرب) لخصوصية ذلك الصوت الغريب. لكنه لم يكن يزيد على عبارات التحية وإشارات السلام. شخصية تحب العزلة دائما وترفض الاختلاط بالناس. شخصية غامضة مثيرة للفضول. ليس له أصدقاء ولا يطيل الحديث مع زبائنه. اختلف السكان في تحديد أصوله واحتاروا في التعرف على هويته. قال البعض إنه مهاجر مختل جاء من المشرق العربي. وادعى البعض الآخر أنه دجال محتال يخطط في السر لأمر عظيم. بل ذهبت بعض التحليلات المغالية إلى القول إنه جاسوس متنكر جاء لمهمة استخباراتية خاصة، ولذلك فهو يرتدي هذه الألبسة الرثة ويمتهن هذه المهنة البسيطة ويقطن تلك الشقة المتواضعة حتى لا يثير حوله الشكوك. لكن غرابة أحواله وقصاصات الأخبار والحكايات التي نسجتها الساكنة حوله جعلت الأنظار تلتفت إليه وتتبع خطواته صباح مساء. أصبح الرجل حديث الصغار والكبار، تستفز شخصيته أسئلة الناس وفضولهم ، وتطلق العنان لمخيلاتهم المبدعة لتخلق قصصا مشوقة وأساطيرغريبة…
(صوت العرب) متزوج من امرأة جنية.
هذه الشائعة كانت تتردد على الألسنة وتتناقل بسرعة قياسية بين سكان الحي. والكل يريد أن يكتشف هذا السر ويفك شفرات هذا اللغز المحير.
هل هذا حقيقي؟؟ هل هذا ممكن؟؟
البيت مغلق دائما ولا يخرج منه أو يدخل إليه سوى (صوت العرب). ولم ير الناس به غيره. ولكن الجميع يؤكد أن كل من اقترب من الباب ليلا يسمع بكاء الأطفال وحديثا وحركة غير عادية. الكل صار يعلم أن البيت يضم أسرة مجهولة لا يُرى ولا يُعرف منها سوى السيد الغريب. الجميع مقتنع أنه يوجد سر خلف تلك الأبواب الموصدة. كيف يكون بالبيت ضجيج وبكاء وحديث ليلا، ولا يسمع الناس ذلك بالنهار؟؟ مع من يتكلم هذا السيد الغريب؟؟ لماذا لا نرى أفراد أسرته يدخلون أو يخرجون؟؟؟
حاولنا أكثر من مرة أن نحظى بمتعة الاستماع إلى صوت الجنية وصغارها لكن دون جدوى. كنا في الكثير من المرات نتظاهر باللعب على مقربة من البيت، وتظل آذاننا مركزة على ما ستلتقطه من أصوات.
يقول صديقي: سمعت بكاء رضيع، فيرد الآخر: أنا سمعت نحنحة امرأة. ويقول الثالث: أنا فقد سمعت وشوشة هامسة… ربما تحاول الجنية عدم إسماع صوتها.. أما أنا في الحقيقة لم أسمع شيئا، ولكنني نسجت من كلام أصدقائي ومن رواياتهم المثيرة رأيي الخاص. تخيلت أنني بدوري سمعت أصواتا هامسة مثلما سمعوا. التصقت هذه التهيؤات بجدار ذهني حتى صارت حقيقة اقتنعت بها مع مرور الأيام، وصرت أرويها لغيري بكل يقين واطمئنان.
في مساء أحد الأيام، كنا جلوسا على الدرج الأول من الزقاق المفضي إلى الحي، نراقب دخول (صوت العرب) إلى البيت، ولما أغلق الباب خلفه، قال لنا أحد الشبان من أبناء الحي، يكبرنا سنا ويفوقنا معرفة وتجربة:
- (صوت العرب) أسعد زوج وأكثرهم حظا.هو الوحيد الذي يستمتع بزواجه.
لم نفهم فحوى كلامه لصغر سننا. لكننا طلبنا منه تفسيرا يخلصنا من سذاجتنا البريئة، فصعقنا بجواب غريب لم تكن عقولنا الصغيرة قادرة على استيعابه بعد.
- اسمعوا.. الجنّيّّ له القدرة على التشكل، فهو يستطيع أن يغير شكله ومظهره كما يشاء. وليس له شكل واحد ملازم له دائما. فزوجة (صوت العرب) مثلا ليس لها جسم محدد . فكل يوم تتخذ شكلا بهيا وجسما جميلا وقدا رشيقا. وتحرص على أن تكون أجمل النساء على الإطلاق. ولذلك قلت لكم إن (صوت العرب) زوج محظوظ. هل فهمتم الآن؟؟
كان هذا الجواب كافيا لتشتغل مخيلتنا الصغيرة المبدعة، ونتخلص من براءتنا وبساطتنا الطفولية. أخذنا نقوم بإسقاط صورة أجمل النساء اللواتي نشاهدهن في التلفاز على صورة الجنية. حتى صرنا نغبط (صوت العرب) على هذا الحظ النادر المبهر، بل نتمنى لو كنا مكانه. كان صديقي يقول:
لو كنت مكان (صوت العرب)، لطلبت من الجنية أن تتشكل في صورة (ريكها) معشوقته الممثلة الهندية أو (مارلين مونرو).
ويقول الآخر: أنا سأطلب من الجنية أن تتشكل في جسد (صوفيا لورين).
أما أنا فأظل حائرا في اختيار الجسد الذي يغريني في التلفاز والسينما. فأكتفي بحلم بسيط ولكنه كان يعني لي الكثير، وهو أن تسكن الجنية جسد ابنة الحي الشقراء التي أعشقها عشقا طفوليا غير متبادل وأفضلها على نساء الكون كلهن.
سألت والدي يوما: هل بإمكان الإنسان أن يتزوج جنية؟ فأكد لي ذلك، بل أعطاني دليلا ملموسا ومثالا من الواقع يجعل الأمر حقيقة لا ريب فيها. قال لي إنه يعرف فتاة مقعدة جميلة لا تخرج من البيت أبدا. وهي متزوجة من جنيّ. لها من الحليّ ما يعجز الأغنياء عن اقتنائه، ولها من اللباس والأثاث ما يبدعه أمهر الصناع في العالم. وتملك ثروة هائلة تجعلها من أغنياء الأرض. ولم تكن تلك الثروة إرثا من والدها المتوفي، وإنما من زوجها الجنيّ الذي يمنحها كل ما تحلم به.
زاد هذا الكلام من جرعات خيالي ومن تدفق سيول أحلامي وأمنياتي…ولكنني فجأة انتبهت لحال (صوت العرب). فقلت في نفسي: لماذا لا يعيش هذا السيد غنيا ما دامت زوجته جنية؟ ولماذا يمتهن هذه المهنة البسيطة ويسكن هذا البيت المتواضع ما دام بإمكانه أن يكون ثريا مترفا؟؟؟
مع مرور الأيام صار (صوت العرب) يتضايق من نظرات الناس ومن حكاياتهم العجيبة التي يصوغونها بكل براعة وإبداع. كل مساء، وقبل أن يلج الباب، يكون له فصل من مسلسل الخصومات اليومية مع أبناء الحي الذين يتكاثرون ويحلو لهم المقام قرب بيته قصد اكتشاف السر المحير. يجبرهم على الابتعاد قليلا، لكنهم سرعان ما يعودون إلى أماكنهم. كان حلمهم الوحيد جميعا هو أن يحظوا برؤية الجنية وأبنائها.
وفي صباح يوم كئيب، استيقظنا على خبر موجع تألم له أهل الحي كلهم. فقد افتقدنا (صوت العرب). افتقدنا الصوت والصورة. وجدنا الباب مفتوحا على مصراعيه والشقة خاوية على عروشها، لا إنس فيها ولا جن ولا أصوات ولا أطياف. غاب الرجل فجأة واختفى عن الأنظار، وظل السر الغامض المحير محيرا. ولم يبق من الرجل الغريب إلا الذكرى. لكن مخيلة الناس ظلت نشيطة مبدعة تصوغ حكايات جديدة حول سر هذا الاختفاء الفجائي.منهم من قال… ومنهم من قال….