شعريَّة المكان في ديوان: “هواء العائلة” للشَّاعر: شريف رزق

شريف رزق: الدولة المصرية غير معنية بالثقافة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أيمن الدّسوقي

إنَّ المُتلقي لخطاب شريف رزق- المُتكرِّس عبْرَ مُنجزاتٍ ذاتيَّةٍ مختزلةٍ- يجد استقباله ملفوفًا بجدليَّة المُوازناتِ الشِّعريَّة العميقةِ بينَ تأصيلِ الموروثِ الثَّقافي بمختلفِ مستوياته وبينَ خلْق الواقع المُغاير من خلال تقنياتٍ سرديَّةٍ دقيقةٍ وعميقةٍ تتجاوزُ- من حيثُ طبيعتها- حدودَ التَّراكيب المكشوفة لعلاقات اللغة والمجاز. 

فالخصوصيَّة الشَّديدة لهذا الخطابِ تضعُنا، دائمًا، أمام محاولاتِ الكشفِ لإحداثيَّاته التي يتشكَّل منها البناء الدّلاليُّ، بل تتفجَّر في لا محدوديَّة – ولو من سياقٍ مباشر- تُرهق احتمالات التَّلقِّي في إمتاعٍ حميميٍّ، يتفجَّرُ معه سيلٌ من الاختزالِ لتجارب حياتيَّة يعيشها كلٌّ منَّا، لكنَّها مُذهلة مجازيًّا لخصوصيَّتها ولتحوُّل الوعي منها للجمعيِّ، في محاولةٍ لخلْق هذا العالم المُغاير الذي يرنو إليه الشَّاعر، بعيدًا حتَّى عن دلالاتِ بنائه الخاصِّ، فهو- إذن – يُؤسِّسُ مشروعًا يبني فيه عالَمًا يُوهمُكَ باستغراقه فيه؛ ولكنَّه في حقيقة الشِّعر، يقف دائمًا متأمِّلاً- من بعيد- بناء إحداثيَّاته و ظواهره، ولكن ما يُلفت الانتباه حقًّا- وقد يكون ذلك مدخلاً مُهمًّا في بناء سياق التَّلقِّي في شعريَّة النُّصوص- هو كيفيَّة وقوفه، وطبيعة ذلك الوقوف؛ حيث يُلفت الانتباه تحرُّره من القالب المحدودِ دائمًا إلي فضاءاتٍ مُتجدِّدة، تتشكَّلُ في كلِّ مرَّةٍ مع حركة السِّياق في تردديَّة بنَّاءة، ويقف شريف رزق في طليعة الشُّراء الذين يُشدِّدون على أن يكون البناءُ مُجسِّدًا للتَّجربةِ، وثمَّة وعيٌ كبيرٌ بأهمية الفضاء النَّصيِّ وتشكيلِ جماليَّات المكان في عمله الشعريِّ، كما أنَّ جزءًا كبيرًا من التَّجارب الحياتيَّة المُختزلة لدى شاعرنا هو جزءٌ استعاريٌّ من حيث التَّشكُّل، وثمَّة تجاورٌ دائمٌ بين الشَّخصيِّ الآني والإنسانيِّ الأبديِّ في خطابه الشِّعريِّ.

أمَّا الصُّورة- في رأيي- فنجدُها تُوظَّفُ دائمًا لتجاوز حتميَّة إدراكِ الحقائقِ (1) إلى خاصيَّة الرَّبط بينَ عوالم مختلفةٍ ومُتعارضةٍ بالبنية التَّكوينيَّة كما يرى جون كوهين(2)، ومنذ بدايات الشَّاعر نراه واعيًا تمامًا لأهميَّة الصُّورة وقيمتها لبنائه الشِّعري؛ فنجدُ الصُّورة الحسِّيَّة التي تحمل صوتًا وحركةً وضوءًا في اشتباكٍ مجلجلٍ لتكوينِ ذلك العالمِ المُغايرِ.

يقول في ديوانِهِ الأوَّل، “عزلة الأنقاض”:

” لِحَرِيقةٍ في الجَوِّ أَصْعَدُ

قاذِفًا في البَحْرِ أسْلافِي السُّكارَى

قاذِفًا حَشْدًا مِنَ الشُّعرَاءِ قدْ مَاتُوا صِغَارَا

عَارِيًّا مِنِّي وَأَصْنَعُ – في رِمَالِ الضَّوءِ – امْرَأةً  وَدَارَا..”(3)

ثم يصلُ الشَّاعر في ديوانِهِ: “مجرَّة النِّهايات” إلى أفقٍ أكثر رحابةٍ من حيث الدّلالة؛ وهو أفقُ المكان وتأثيراتِهِ البنائيَّة في تشكيلِ المجازِ، بلْ في حلولِ تلك الدّلالة المكانيَّة فيه حتَّى يُفجِّرها كعالمٍ موازٍ في نصوصِهِ.

وفي ديوانِهِ: “مجرَّة النِّهايات” يقول:

“وَهَاهِيَ الطُّرُقاتُ التي ظَلْتَ تَعْبُرُ

قَدْ تَشَظَّتْ                   

 كَحُزْمَةٍ مِنْ نَيَازِكَ

في ضُلوعِكَ..”(4)

وقد وصلت القيمة الدّلاليَّة للمكان إلى أوج تفاعلها مع المتلقّي- في رأيي- في خطابه المبدع الأخير: “هواء العائلة”؛ لتشكِّلَ لنا وعيًا مختلفًا بالتّفاصيل الحميمة، وتنتج لنا واقعًا مغايرًا نأمله، وفي السُّطور القادمة سأحاول الاقتراب من هذه القيمة المهمِّة – أعني القيمة المكانيَّة – في ديوان “هواء العائلة” الّذي صدر حديثًا لشاعرنا وتتجلَّى القيمة المكانيَّة في أكثر من مدلول؛ كنصيَّة العناوين الفرعيَّة، وطبيعة اللغة التي يتجاوز بها الشَّاعر طبيعته الكتابيَّة لما ألفناه في أعماله السّابقة؛ نظرًا لعدم احتماليّة التّجربة- في رأيي- إلاّ للغة خاصّة تحتملها نصيَّة العناوين الفرعيّة كمثال :

الّذي يدهش المتلقِّي أن يجد العنوان الفرعيَّ الّذي يتشكَّلُ منه الخطاب الشِّعريُّ كلّه هو الأرقام الرُّومانيّة القديمة (I-IV-X)- مثلاً- مما يفجِّر فينا أسئلة لا حصرَ لها، ويكون أوَّل الأسئلة: لماذا؟؛ فنلج بهذا السُّؤال وحده إلى عالم من الاحتمالات والتّصورات، إلا أنَّها تصبُّ عندي في دلالة القيمة المكانيَّة لهذا الشَّكل العدديِّ ومدى إثرائه للخطاب الشِّعريِّ، أو كما يري تشيبوسوف (مؤسِّس نظريَّة الاحتمالات في المدرسة السُّوفيتية): هو البحث الجديد عن جوانب جديدة، في مواضيع معروفة سابقًا(5).

والقيمة المكانيَّة برمز العدد الرُّومانيِّ المكتوب جهةَ اليسار مُؤشِّرٌ آخر دلَّ على كبر القيمة، وإن كتب على يمينه دلَّ على مجموع الرّمزين.

إذن لدينا مكان يتضخَّم بآخر، ومكان تتّسع دلالة قيمته المكانيّة بآخر، وبحسب التّصنيف في المكتبات العالميَّة – كلية أربد الجامعيّة مثلا- فإنَّ الرَّقم الرُّومانيَّ يستخدم للدَلالة على التَّقسيمات الجغرافيَّة مما يعود بنا لخطاب “هواء العائلة” لبيان فكرة الارتباط بالقيمة المكانيَّة، فنرى تحت الرَّمز (II):

أينَ أنْتَ الآنَ يَا جَسَدِي؟

، أنتظِرُكَ على قارعَةِ الظَّلامِ، وَحْدِي

 بلا مَأوى أوْ رَفيفٍ.”(6)

ثمَّة بحثٌ عن المكان/المأوى، وانتظار لفقد حميميٍّ، طالما يُؤرّق شاعرنا عبْر دلالات النَّصِّ المُغاير، ثم تتضخَّم الدَّخائل المطويَّة ومعاناته بين القوى الخفيَّة؛ التي تبني أفقًا لا ينتظره المتلقِّي حين تكبُرُ القيمة المكانيَّة تحت الرَّمز: (III) فنرى:

“جُثَّتِي تُلوِّحُ في العَرَاءِ

 لِغَيمَةِ لا تَرَاهَا.”(7)

وثمَّة استغراقٌ في دلالة العَراء؛ بل انقطاع الأمل؛ ولو في ظلٍّ رطيب، وعلى الرَّغم ما يُردِّده صديقي- مُتلقٍ آخر- أنّه أملٌ زائفٌ؛ حيث إنَّها جثَّته تلك التي تنتظرُ، ولكنَّ المتتبِّعَ لمسيرة شريف رزق الإبداعيَّة يصلُ إلى حتميَّة تفجُّر الحياة من هذه المفردة تحديدًا: “الجثَّة”، أو قلْ: كم من الجثثِ المُؤرَّقة والمشكِّلة لدلالات الانفعال السَّرديَّ- إنْ صحَّ التَّعبير-، وإذا كانت دلالة الرُّموز الرُّومانيَّة ترتبط هكذا بقيمةِ المكانِ، فإنَّ إعادتها من جديد؛ لتُشكِّل عناوينَ لسرديَّة موازية في مكان آخر من الدِّيوان، يجعلنا نقول ببساطةٍ شديدةٍ: إنَّ الشَّاعر يُعيدُ ترتيب المكان، في محاولة الإمساك بذاكرةٍ تقتحمُ ذاكرة المتلقّي اقتحامًا؛ فنرى تحت الرّموز السّابقة نفسِها:

(II)                                                                                   

“أنِيْنٌ يتصَاعَدُ منْ جُدْرَانِ غُرفتِي

أسْمَعُهُ بوضوحٍ قُبَيْلَ نَوْمِي

يَتَكَاثَفُ مِنْ حَوْلي

 في كُلِّ ليْلةٍ.”(8)

(III)

هَذَا البيتُ المُحَطَّمُ

كَانَ جَسَدِي ذَاتَ يَوْمٍ

حَدِّقْ مَلِيًّا يَا أبي، وَتبيَّنْ هَذَا الأنِيْن.“(9)

إنَّ قراءة المكان في الأدب تجعلنا نُعاود تذكُّر بيت الطفولة(10)، وقراءته في ديوان: “هواء العائلة” تحديدًا، تفتحُ ذاكرةَ المُتلقّي على عوالمَ شتّى قد تلاشت وذوت واختُزلتْ؛ فيعيد عمليَّة البناء الخِطابيِّ بمقدار عمق انفتح الذَّاكرة واتّساعِها، ثم يعود بنا الشَّاعر إلي محيطه الذَّاتي الذي يرفض أن يشاركَه آخرٌ فيه، حينما يُصدِّر الذَّات في إعلانها عن تلاشيها مع تلاشِي المكان (IV)؛ فيتشكَّلُ هذا الاستفهام عن المكان، وإن كان قد حمل معه دلالاتِ الغربة والتَّلاشي:

(IV)

“معك حقٌّ تمامًا يا أبي:

أين شريف؟”(11)

وكما وظَّف الشَّاعر نصيَّة العناوين الفرعيَّة لخَلْق القيمةِ المكانيَّة للمُتخيَّل المكانيّ في ديوانه، نجد تلك القيمة تتّسع عبْر لغةٍ شعريَّة خاصَّة، تتعدَّى حقل الدّلالات الأوليَّة لبناء لغويٍّ، من حيثُ الألفاظ والتَّراكيب وعلاقاتها بالسِّياق وتردُّداته، وإنَّما نجد اللغة التي تتفاعل، بل تتوغَّل إلى الباطن، في محاولةٍ خلاَّقة، لبناء شكلٍ مُتفرِّد لهذا المكان.

إنَّ حالةً من الوجدِ والحلولِ لا تحتاجُ – في رأيي – إلاَّ إلى لغةٍ كهذه؛ لغةٍ تعتمد على وصف العلاقاتِ الشَّكليَّة؛ إيقاعًا، وتوتُّرًا، وانسجامًا، وحتَّى طبوغرافيا الصَّفحة، وكأنَّك- كمُتلقٍ مُساهمٍ- تبني معه المكانَ المُتخيَّل حسب ترتيبكَ الخاصّ لتلك العلاقات الشَّكليَّة؛ فيكون المطروح أماكن لانهائيَّة سوف يبدأ منها الشَّاعر رحلته إليك، في تجدُّد حميميٍّ لحالة الوجْدِ المستديمةِ.

ونرى- مثلاً- تلك الدّلالة الصَّوتيَّة التي تحلُّ- مكانيًّا- بأشعاره حينَ يقول:

“عُواءُ ذئبٍ وحيدٍ في فلاةٍ

بأشعاري”(12)

تبدأ الدَّلالة بصوتِ العُواء؛ الَّذي يُثير في النَّفس وحشةَ الانفرادِ، ورجفة التَّمزُّق ، ثم يفجؤكَ الوصف:”وحيد”، بما يحمله من انحرافٍ في الدَّلالة؛ فتشكيلُ الصَّحراء – التي استبدلها – تنتهي جميعًا – نزولاً- في أشعاره، غير أنَّ ما يُفجِّر لغةً العلاقاتٍ المُشتبكة ذلك الاستخدام المؤثِّر لحروفِ المدِّ في هذين السَّطرينِ؛ كأنَّ امتدادَ العُواء امتدادٌ لا ينقطعُ، وإذا وازنتَ بينَ الفراغِ المُتذيِّلِ وكتلةِ السَّطرينِ – فلا يوجد غيرهما في الصَّفحة – لتبينتَ مدَى تحكُّم النَّصِّ / السَّطرينِ من دلالاتِ تشكيلِ الفرَاغِ، في محاولةٍ لبناءِ المكانِ من جديدٍ، إنَّ تصويرًا مبنيًّا على لغةٍ مُغايرةٍ يعلمها شاعرنا جيِّدًا لكفيلٌ بأن يُعيدَنا مرَّات ومرَّات لقراءةٍ لا كفاية فيها من الدّلالات، ولاسيَّما إذا أخذنا في اعتبار تلك القراءةِ شموليَّة الأداءِ الفِعليِّ لتشكُّل البناء اللغويِّ لدى الشَّاعر في خطابِهِ: أيْ استعمالاته الشَّاملة لمظاهر المُتكلِّم- المُتلقِّي من حيثُ الطَّرائق السَّمعيَّة البصريَّة (13)؛ التي تُعزِّزُ الدَّلالة المقصودة، وقد تشكَّلت تلك الطَّرائق وأثرتْ الحوارَ السِّيميائيَّ، في مكانٍ يُمثّلُ ذروةَ البناءِ الخطابيِّ، في مقطعٍ غايةٍ في الاختلافِ الشِّعريِّ؛ حيث تتلاحمُ العلاماتُ النَّصيَّةُ لبنيةِ السَّردِ من أجل هذا الحَدَثِ، يقولُ:

“- يا أمِّي، إنَّهُ حَيٌّ لمْ يَمُتْ

، إنَّنِي أرَاهُ في كُلِّ ليلَةٍ في المَقْبَرَةِ

، مُنْكَمِشًا بَيْنَ المَوْتَى، وَلا يَكُفُّ عَنْ البُكَاءْ.

– المَيِّتُ لا يَرْجِعُ يَا بُنَيَّ.

– افتَحُوا، وَانْظُرُوه يَا أمِّي، إنَّهُ يبكِي وَحْدَهُ.

– رَحِمَهُ اللهُ يَا بُنَيَّ، كَانَتْ رُوحُهُ فيْكَ.

– إنَّهُ يُنادِينِي يَا أمِّي، وَيَبْكِي، صَدِّقِينِي.

– وَهَلْ ذَهَبْتَ إليْهِ يَا شَرِيفُ ؟

– إنَّنِي خَائِفٌ يا أمِّي، وَأصْحُو كُلَّ يومٍ عَلى بُكائِهِ

، وَنِدَائِهِ لِي”(14)

إنَّ البناءَ اللغويَّ هنا يُفجِّرُ طاقةً غير محدودةٍ من الألمِ، ومُستمرَّةٍ؛ بل دائمةِ التَّجدُّدِ في كم المضارع المُستمرِّ، بل استخدامه لاسم الفاعل الدَّال على الاستمراريَّة، أمَّا اللافت للرُّؤية فهيَ لغةُ الحوارِ السَّرديِّ على لسانِ الأمِّ؛ حيث يُراعي الوعي الخِطابيُّ فيها ثقافتَها، دونَ الخروجِ عن الإطارِ العام للنَّصِّ؛ فتشعر بعفويَّة الرُّدود وقربها من الحقيقةِ على هذا اللسانِ؛ ليُمثِّلَ توازيًا آخرا لدلالةِ الألمِ المستمرِّ، “كما أنَّ الإيقاع السَّرديَّ هنا تأتي مكنوناتُه أقلّ انتظامًا وأبعد فاصلاً”(15)؛ فالملامحُ الإيقاعيَّة أكثرُ إجهادًا للتَّناول عنها في مواضع أخرى؛ حيث تعبُرُ باللغة إلي فضاءاتٍ متعدِّدة من التَّأويل، واعتماد النَّصِّ على أسلوب الحكي الذي تعلو وتنخفض فيه منحنياتُ الدِّراما يعبُرُ بنا فضاءاتِ الكتابةِ عبْرَ النَّوع الأدبيِّ ذاتِهِ، خيط من الدِّراما – الملحميَّة أحيانًا- يربط الحدثَ التَّفاعليَّ للنَّصِّ، عبْرَ عناصر مكانيَّةٍ وإنسانيَّةٍ عديدةٍ تُشكِّل ملامحَ المكان وسرديَّاتِهِ الخاصّة:  

هُنَا كانَتْ دارُنا القديمةُ.

هُنَا وُلِدْتُ.

هُنَا كانَتْ جدَّتي تقعُدُ في كلِّ عَصْرٍ.

هُنَا كانَتْ عَنْزَاتُهَا.

هُنَا كانَ الحمَامُ.

هُنَا كانَ المُلتقَى.

هُنَا كنَّا نُعَيِّدُ كُلّنَا.

هُنَا ظَلَّتْ جدَّتي

، ولمْ تَسْتَجِبْ

، لأحَدٍ منْ الأبناءِ.

هُنَا ماتَتْ جدَّتي

، على سريرِهَا النُّحاسِيِّ ذِي الأعْمِدَةِ الطَّويلَةِ

، والسِّتارَةِ المشغولَةِ بأوْرَاقِ الزُّهورِ

، ماتَتْ وَحْدَهَا.

هُنَا كنَّا نعيشُ.”(16)

ثمَّة تفعيلٌ مغايرٌ لأداءِ اللغة، يقوم بتشكيل الواقع الحميميِّ، تشكيلاً نصيًّا يلتحمُ بعناصرِهِ وسرديَّاته ونبراته، في تفاصيل معيشةٍ حيَّة، و” قد ربطت التَّفاصيل النَّصَّ بالحياةِ، بواقعِها، وطقوسِها، وبدلاً من أن تُصبحَ القصيدةُ عالَمًا من الكلماتِ والتَّصوُّراتِ، أصبحتْ عالَمًا من الوقائعِ والأحداثِ الحيَّةِ و الأشياءِ الحميمَةِ (17). وباستعادةِ القراءةِ نجدُ الشَّاعرَ قد اختلفَ في تشكيلِهِ اللغويِّ منذ المقطعِ السَّابق وحتَّى نهاية الدِّيوان؛ حيث تلتحم اللغة بأداءِ الحكي الطُّفوليِّ؛ فكانت تأطيرًا للمشاهدِ الحياتيَّة الحميمَةِ، بمنظورٍ وبمُعجمٍ يُناسب تمامًا تلك المشاهد، والأهمّ أنَّها مُرسلةٌ من صوت الطِّفل فيه، فكان الرَّصدُ الواقعيُّ للمشاعرِ “والتَّكوين النَّفسيّ، فضلاً عن أساليب القصِّ الحديث من تيَّار الشُّعور والاستخدام النَّاضج للزَّمن واللمسات الواقعيَّة الدَّالة”  (18) إثراءً للغةِ الغيابِ الحاضرَةِ بقوَّةٍ من الزَّمن الجميلِ، يقول دون فاصلة للتَّوقُّف – كطفلٍ ينتشِي لحكيهِ -:

“أصْعَدُ السُّلمَ الخشبيَّ إلى سَطْحِ الدَّارِ

وأُطْلِقُ طيَّارتي الورقيَّةَ إلى أعْلَى فَضَاء

تتموَّجُ كُلَّمَا أرْخيْتُ لها الخيطَ بمِقْدَارٍ

وتختالُ رَاقِصَةً بغَمَزَاتي

ولعِدَّةِ مَرَّاتٍ تكادُ أنْ ترفَعَني إلى الأعَالي.”(19)

إنَّ الذَّات السَّاردة؛ المُشخصنةَ في السَّردِ، منذ طفولتِها، مُعلَّقةٌ بتفاصيلِ المكانِ ودقائقِه وسرديَّاته الخاصَّة، يتبدَّى هذا من منظورِ الطّفولة ووعيها ولغتِها:

“سَطْحُ الدَّارِ، هُوَ المكانُ الأثيرُ لديَّ

آوي إليْهِ، خُلْسَةً، على

دَرَجَاتِ السُّلَّمِ الخَشَبيِّ، وَمَا بَيْنَ

جرَارِ الجُبْنِ القَدِيمَةِ، وَبَقايَا الأشْيَاءِ، أسْتَنِدُ

على الحَائطِ الطِّيني الخَفِيْضِ

مُسْتَمْتِعًا بتفاصِيْلِ المشْهَدِ الكُلِّيِّ.”(20)

إذن- نحن أمام لغةٍ تصويريَّة لذاكرةٍ تتفاعلُ وتُحلِّلُ وتُمثِّلُ رغمَ بساطتِها الظَّاهرةِ، أو قل: نحن إزاءَ ” طفولة الذَّاكرة البَصَريَّة”(21)

“تجعلينَ مِنْ فخذِكِ وسَادَةً لي

تمسَحِينَ على رَأسِي 

وتقُصِّينَ عليَّ حِكَايَاتٍ مِنْ طفولتِكِ

ثمَّ طفولةِ أخْوَالي وأمِّي

تأخُذِينني إلى السُّوقِ دائمًا مَعَكِ

في كلِّ مرَّةٍ تُحْضِريْنَ لي كوبًا مِنْ السُّوبيا المثلَّجَةِ

تحمِلِينني في الزِّحَامِ

تأخُذِينني في زيَارَاتِ المقابرِ

وفي الأعْيَادِ والمناسَبَاتِ

وكُلَّمَا اسْتيقظْتُ في الليْلِ عَطْشَانَ يَا جدَّتي

تكونيْنَ في انْتِظَاري؛ فَتَسْقِينَني كَرَضِيْعٍ

تتعلَّقُ عيناهُ بحنانِكِ الزَّائدِ،

ثمَّ تُعِيْدِينَني إلى النَّومِ مِنْ جَدِيدْ.”(22)

إنَّ بناءَ المُتخيَّلِ المكانيِّ في “هواء العائلة” يكشف عن وعي واضحٍ بتشكُّل المكان؛ كحاضنٍ للوجود الحياتيِّ، للغةِ، وللتَّقاليدِ والعاداتِ، والمكانُ هنا ليس مجرَّد حيِّز حاضنٍ ومساحاتٍ وأبعادٍ هندسيَّةٍ؛ بل هو مكانٌ إنسانيٌّ، يتفاعلُ مع شتَّى تجلِّيات الحضور الإنسانيِّ، وقد ساهم التَّشكيل المكانيُّ في “هواء العائلة”، في إبراز الذَّوات الإنسانيَّة، كبنى حضور حيٍّ وفعَّال في الواقعِ وفي اللغةِ، وقد أصبحَ المكانُ حيًّا باتِّحاده بالإنسانيِّ والمعيشِ وانفتاحِهِ على حياةِ العائلةِ، وقد قامتْ الشِّعريَّة المكانيَّة هنا باستعادةِ هذه العوالمِ، واستنهاضِ حيواتِها وبناءِ عوالمِها، عبْرَ صورٍ مكانيَّة خاصَّةٍ وعبْرَ تداخُل عوالم البشر مع تفاصيل المكان، والتحام ما هو داخليّ بما هو خارجيّ، في فضاءٍ يُصبح الإنسانيُّ فيه جزءًا من الحضور المكانيِّ حينًا، ويتأنسن المكانيّ فيه حينًا آخر.

 

 

الهوامش

(1) د/ جابر عصفور- الصُّورة الفنيَّة في التُّراث النَّقديّ و البلاغيّ عند العرب-  دار التّنوير- بيروت – ط 2 – 1983.

(2) جون كوهين- بنية اللغة الشِّعريَّة- ترجمة:محمد الولي ومحمد العمري- المغرب: دار توبقال للنَّشر- ط1- 1986.

(3) شريف رزق- عُزلة الأنقاض- ط1- 1994- ص: 16.

(4) شريف رزق – مجرَّة النِّهايات – ط1- 1999- ص:7.

(5) ب. غنديكو- نظرية الاحتمالات  –ترجمة: د جمال الدَّباغ- دار ميريت- ط2-1990.

(6) شريف رزق- هواء العائلة-  ط1- 2016- ص:8.

(7) السَّابق- ص:9.

(8) السَّابق- ص:57.

(9) السَّابق- ص:29.

(10) باشلار غاستون- جماليَّات المكان- ترجمة غالب هلسا- المؤسَّسة الجامعيَّة للنَّشر- بيروت – ط2 – 1984.

(11) شريف رزق- هواء العائلة- سابق – ص:80.

(12)  السَّابق- ص:38.

(13) د/ أحمد حساني- اللسانيات التطبيقية وتعليمية اللغات – مفاهيم وإجراءات-الجسرة الثقافية- العدد: 8 – 2001

(14) شريف رزق – هواء العائلة –  سابق- ص:36.

(15) د/ شكري الطّوانسي- شعريَّة الاختلاف: بلاغة السَّرد عند إدوارد الخرَّاط – الجزء الأوَّل- الهيئة العامة لقصور الثَّقافة- 2016.

(16) شريف رزق- هواء العائلة – سابق – ص:83.

(17) شريف رزق- قصيدة النَّثر – مركز الحضارة العربيَّة بالقاهرة – ط1- 2010.

(18) د/ حمدي السَّكوت- الرِّواية العربيَّة: ببليجرافيا ومدخل نقديّ- المجلَّد الأوَّل- قسم النَّشر بالجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة- ط1- 2000.

(19) شريف رزق- هواء العائلة-  سابق – ص:87.

(20) السَّابق – ص:9.

(21) محيي الدين اللبَّاد- طفولة الذَّاكرة البَصَريَّة- مجلَّة:ألف- العدد السَّابع والعشرون – 2007.

(22) شريف رزق – هواء العائلة – ص:58.

 

 عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم