شريف رزق وأسئلتُهُ الجديدَةُ القديمَةُ حولَ قصيدَةِ النَّثر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود قرني

سأبدأ منْ حيثُ انتهى الشَّاعر والنَّاقد شريف رزق ، أقصدُ منْ حيثُ اكتشافه مُعْضِلاتِ المَرَضِ ؛ فكِتَابُ :" قصيدة النَّثر" ليسَ كتابًا عابرًا ؛ فقدْ أرادَ لنفسِهِ أنْ يكونَ سِجلاًّ أمينًا لواقعٍ يضمَنُ الكثيرَ منْ الطَّردِ لكلِّ مغايرَةٍ ولأيِّ اختلافٍ ؛ لذلكَ تبدو صَرَخَاتُ رزق وغيرِهِ ، تأكيدًا على البرِّيَّةِ المُوحِشَةِ وَليسَ العَكْسَ .

هنَا فقط تتبدَّى المشكلَةُ : التَّقسِيمُ السِّيمتريُّ ؛ العَزْلُ الَّذي يبرِّرُ نفسَهُ بالمزيدِ مِنْ التَّصنيفَاتِ ، فيمَا يبدو المُصْطَلَحُ عَصِيًّا على حَفْرِ نفسِهِ على وَجْهِ العُمْلَةِ ؛ فالقصِيدَةُ غضَّةٌ وَمُعْضِلاتُهَا عَصِيَّةٌ على التَّصنيفِ ، وواقعُهَا الَّذي نَبَذَ الآبَاءَ ، لا يتورَّعُ بطبيعَةِ الحَالِ عنْ نبذِ الأبنَاءِ ثمَّ الأحفَادِ .

هَذا وَاقعٌ يؤكِّدهُ رزق في بابِهِ قبلَ الأخيرِ: ” مُشْكلاتُ قَصِيدَةِ النَّثرِ الرَّاهنَةِ ” ؛ فهوَ يَرَاهَا في مَأزقٍ حقيقيٍّ ، وَيرصُدُ ذلكَ على نحوٍ مُحدَّدٍ ، مُتمثِّلاً في : ” تماهِي الأصْوَاتِ في صَوْتٍ واحِدٍ ، الاسْتِسْلام للدَّفق التَّقريريِّ وَالمباشَرَة ، تَجَاوُز قَصَيدَةِ النَّثرِ إلى نثرِ القَصِيدَةِ ، التَّخلي عَنْ مبدأ التَّكثيفِ ” ، وَيُقدِّمُ لنَا رزق ـ  في جُرْأةٍ لا يتوفَّرُ عليهَا نقَّادُ أيَّامِنَا – نماذجَ شِعريَّةً دالةً على كلِّ مُعضِلةٍ ؛ لكنَّ المثيرَ وَاللافتَ في الأمْرِ أنَّ الأسْبابَ الَّتي وَرَدَتْ في نهايَةِ الكتابِ كدليلِ إدانَةٍ ، هِيَ نفسُهَا الأسْبابُ الَّتي قامَتْ عليهَا ، لَدَى النَّاقدِ ؛ كأسْبابٍ للتَّمايُزِ منذُ الصَّفحاتِ الأولى للكِتابِ ؛  فهوَ يُشِيرُ إلى مُلاحَظَةٍ عامَّةٍ وَمُهمَّةٍ ؛ هِيَ أنَّ هاجسَ التَّحزُّبِ للشَّكلِِ صَارَ أكبرَ مِنْ هاجسِ الشِّعريَّةِ نفسِهَا ، على الرَّغمِ  مِنْ أنَّها تُمثلُ المحطَ الرَّئيسيَّ للصِّرَاعِ ، ويختتمُ رزق مَخَاوفَهُ بِالتَّقريرِ بأنَّ طُغيانَ النَّزعَةِ اليوميَّةِ وَالجُزئيَّةِ في قَصِيدةِ النَّثرِ العَربيَّةِ لمْ يُصَاحبْهُ في الغَالبِ وَعيٌ بمقتضَيَاتِ هَذَا النَّوعِ الشِّعريِّ في الشِّعريَّةِ الأوروبيَّةِ ، وَيضرِبُ مِثالاً على ذَلكَ بجاك بريفير وريتسوس ؛ الَّذي يُعتبَرُ الـتَّأسِي بشعريَّتِهِ في مَوضِعٍ آخرٍ مِنْ الكتابِ وَبَالا على الشِّعريَّةِ العَربيَّةِ ، لاسِيَّمَا أنَّ التَّأسِي فَقَدَ الكثيرَ مِنْ بريقِهِ ، بسَببِ فُقدَانِ الوَعْي بالفَلْسَفةِ الكَامِنَةِ خَلْفَ فكرتيْ التَّكثِيفِ وَالرَّاهِنيَّةِ ، كَنَسَقٍ ظلَّ يعملُ ضِدَّ العرفانيَّةِ وَالذَّاتيَّةِ وَاللغَةِ التَّاريخيَّةِ .

منْ هُنَا وَكَمَا يُشِيرُ رزق في كتابِهِ ، فقدْ لَعِبَ العَالمُ الدَّاخليُّ دَورًا مُهمًّا في إبطالِ الدَّورِ الاجتماعيِّ للعَمَلِ الأدبيِّ ؛ حَيْثُ اعتُبِرَ الوَعْيُ الذَّاتيُّ ، لا الوَاقعُ الخَارجيُّ محورًا أسَاسيًّا للإبدَاعِ ، وَهُوَ الحِسُّ النَّاتجُ عنْ الشُّعورِ العَامِّ بالاغتِرَابِ الَّذي لازَمَ النَّصَّ

لكِنْ لمْ يَسَألْ أحَدٌ منَّا نفسَهُ : هلْ كُلُّ هَذِهِ المُواصَفَاتِ المَطروحَةِ أرْضًا ، صَالحَةٌ دَائمًا لإنتَاجِ الشِّعرِ ، نَاهيكَ عَنْ قدرتِهَا على إنتَاجِ شِعريَّةٍ جديدَةٍ ؛ فاحْتِقارُ الأيديولوجيا على سَبيل المِثالِ ، أخْرَجَ منْ أدبياتِنَا تاريخيًّا وَأخلاقيًّا ، هؤلاءِ الَّذين سَاعدُونَا على اسْترجَاعِ صَوْتِنَا في الشُّئون العَامَّةِ وَالخاصَّةِ ، وَمَهَّدُوا لتوسِيعِ حدودِ طَبَقاتٍ اجْتِمَاعيَّةٍ مَسْحوقَةٍ ؛ نحنُ على رَأسِهَا ، وَهُو الأمْرُ الَّذي أعْطَى ، في لحْظَةٍ منْ اللحظَاتِ ، قيمَةً رفيعَةً لمَعْنَى الالتزامِ في الفنِّ وَالأدَبِ .

فهلْ يُمكِنُ لهذِهِ الانقلابَاتِ الأخلاقيَّةِ أنْ تملكَ دائمًا مُبرِّرَاتِ الإزَاحَةِ ؟               

يحدثُ ذلكَ أحيانًا

فقدْ حَدَثَتْ في بدايةِ القرْنِ ردودُ أفعالٍ عنيفةٍ ضِدَّ الرَّمزيَّة ، وَضِدّ كلِّ مَا هو ذهنيٌّ ، وَدُعيَ النَّقدُ الغربيُّ إلى الاقترَابِ منْ الحَيَاةِ أكثرَ، أوْ الاندفَاعِ نحوَ مَا أسْموهُ ، الحقيقةَ الملموسَةَ ، وَقدْ شَهدتْ فرنسا بالفعلِ تيَّارًا يتبنَّى هَذا الشِّعرَ الملموسَ مُنذُ العَامِ 1910، إلاَّ أنَّ وَاقعَ الشِّعرِ الأوربيِّ تغيَّرَ تمامًا ، بعدَ الحَرْبِ العالميَّةِ الأولى ؛ فقدْ ظَهَرَتْ الدَّادئيَّةُ وَالسُّورياليَّةُ ؛ لِتُحطِّمَا قُوَى النِّظامِ وَالتَّنظيمِ الفّنِّيِّ تمامًا .

وَقدْ أوْلى النَّاقدُ شريف رزق اهتمامًا كبيرًا لموقفِ الرُّوادِ ِمنْ قَصِيدَةِ النَّثرِ ؛ سَوَاء برفضِهَا أوْ بتبنِّي مَقُولاتٍ مُنَاهِضَة لمَقُولاتِهَا ؛ حتَّى هؤلاءِ الَّذين انبنَى جزءٌ مِنْ شيوعِهمْ عليهَا ، لِننظُرْ مثلاً مَا يقولُهُ أدونيس: إنَّ لغةَ الشِّعرِ تُفلِتُ مِنْ كلِّ تحديدٍ،

 يقولُ مثالاً: ثمَّ يُؤكِّدُ ، في الوَقتِ نفسِهِ ، على أنَّ الشِّعرَ الجديدَ يفتقِدُ الخَاصِيَّةَ الأوْلى للحداثةِ ، وَهيَ الرُّؤيةُ النَّابعةُ ،  في نظرِهِ ، منْ موقفٍ حتميٍّ لتفكيكِ بنيَةِ العَالمِ القديمِ بأصُولهَا المَعرفيَّةِ وَالجَمَاليَّةِ ، وَبالعِلاقاتِ الَّتي أسَّسَتْ لهذِهِ الأصُولِ .

أمَّا محمود درويش فيعتبرُ الدِّفاعَ عنْ الشِّعرِ، دفاعًا عنْ روحِ الأمَّةِ ، وَوجودِهَا الثَّقافيِّ ، وأنَّ التَّجديدَ وَالحَدَاثَةَ يُرَادُ لهُمَا أنْ يَتَحوَّلا إلى مُرَادفينِ للعَدمِيَّةِ وَللثَّورَةِ المُضادةِ أحيانًا ؛ حيثُ لا يُصْبحُ هنالكَ معنَى للأشيَاءِ .               

وَكذلكَ يُؤكِّدُ سعدي يوسف أنَّ قصِيدَةَ النَّثرِ العَربيَّةِ ، ارْتكنَتْ إلى مَرجعيَّةٍ ضَعيفَةٍ ؛ هيَ مرجعيَّةُ الشِّعرِ الفَرنسِيِّ ، وَأنَّهَا في مُعظَمِ الأحْوَالِ ، اعتَمَدَتْ التَّقليدَ المُطلَقِ للمَجَازِ وَالاسْتِعَارَةِ ، وَأنَّ الفَارقَ الوَحيدَ بينَهَا وَبينَ قَصِيدَةِ التَّفعيلةِ ، هُوَ خلوُّهَا مِنْ الوَزنِ ، بينَمَا كلُّ تقنياتِهَا تقليديَّةٌ وَمُتخلِّفَةٌ.       

وَلا يختلِفُ الخِطابُ المُضْمَرُ لمحمَّد عفيفي مطر عنْ سَابقيِهِ ؛ إنْ لمْ يكُنْ أكثرَ عنفًا  ، وَقدْ عبَّرَ عنْ ذلكَ بصورٍ مُتعدِّدةٍ ، وَرُبَّمَا كَانَ رَفْضُهُ للأبنيَةِ اللغويَّةِ القائمَةِ ، هُو منْ قبيلِ الدِّفاعِ المُستميتِ عنْ بناءَاتِهِ اللغويَّةِ الفخْمَةِ ؛ الَّتي تُؤسِّسُ مشروعَهُ في مُجْمَلِهِ،   أمَّا حَديثُ حجازي عَنْ رَهْنِهِ تحقُّقٍِ الشِّعرِ بِالوزْنِ ؛ باعْتبارِهِ شَرْطًا لازمًا لا يقومُ الشِّعرُ خارجَهُ ، فإنَّهُ يُثيرُ، منْ جديدٍ ، قضيَّةً شائكةً وَمُلتبِسَةً  ، حَسَمَ أمْرَهَا الأقدمونَ ، وَوجَّهُوا بسببِهَا انتقادَاتٍ حادَّةً إلى بحورِ الخليْلِ بن أحمدَ ، وَلمْ يتوَانَ شريف رزق عنْ ضَرْبِ عَشَرَاتِ الأمثلةِ بهؤلاءِ الَّذين خَرجُوا ،  عَامِدينَ ، على المُستقرِّ منْهَا مثلَ : عَبيد بن الأبرصِ ، الأسْود بن يعفر، عُروة بن الوردِ ، أميَّة بن أبي الصَّلت ، ثمَّ  في عصْرِ الخليْلِ ، حَيثُ خَالفَهُ : أبو العتاهِية وأبو نُواس ، وَرُزين بن زندور ، ثمَّ خَالفَهُ المُتنبِّيلذلكَ يُمكِنُ وصْفُ الخِطابِ الرِّيادي الفائضِ برسوليَّتِهِ ، كَمَا يُشِيرُ المؤلِّفُ ، بأنَّهُ يرفضُ خِطابَ المُستقبَلِ جُملَةً وَتفصِيلاً، وَإنْ اخْتلفَتْ الأسْبَابُ ، وَهُوَ موقفٌ لا يختلِفُ مَعَ أصوليَّتِهِ ، ويبدو شديدَ الاتِّسَاقِ مَعَهَا .      وَأظنُّ أنَّ كتابَ ” الكِتابِ ” لأدونيس ، هُوَ أعْلَى تمثِيلاتِ هَذِه الأزمَةِ ؛ فهو بحقٍّ أعْلَى تمثِيلاتِ هذه الشِّعريَّةِ الرَّسوليَّةِ ، وَلمْ يكتُبْ أدونيس حرفًا وَاحِدًا فيْهِ خَارجَ هذه الرُّوحِ ؛ بلْ إنَّه يُحاولُ ، مُنذُ عنوانِهِ ، وَضْعَ الدُّستورَ النِّهائيَّ للشِّعرِ وَالمَعرفةِ ، وَكأنَّهُ السَّقفُ الأخيرُ الَّذي تنتهِي عندَهُ الأشْيَاءُ ؛ بلْ إنَّهُ يهدُفُ إلى التَّساوقِ مَعَ أعْلَى نُصوصِ العَرَبيَّةِ قَدَاسَةً ، وَكأنَّهُ شريعَةٌ أخْرَى ، تأتِي في الخِتامِ ، لرَاهِبٍ عظيمٍ ، قَضَى عُمْرَهُ في وَضْعِ السُّننِ الجَديدَةِ للحَيَاةِ وَللكوْنِ مَعًا ، وَمِنْ هُنَا يأتِي تعاليْهِ ، وَتأتِي ذهنيَّتُهُ ، وَيأتِي احْتماؤهُ بالمَعْرفَةِ ، وَمِنْ هُنَا أيضًا يأتِي تنكيلُهُ بالشِّعريَّةِ ؛ الَّتي أخفضَ أدونيسُ منْ شأنِهَا ، لِحِسَابِ كلِّ العناصِرِ الَّتي تقِفُ خلفَهَ.      

لكنَّني لا أوَافِقُ شريف رزق على تناوُلِ قَصِيدَةِ النَّثرِ بهذِهِ العُموميَّةِ ، وَبالطَّريقَةِ الَّتي قالَ بهَا ناقدٌ مُفرطٌ في عموميَّتِهِ : إنَّ قَصِيدَةَ النَّثرِ، ” أداةٌ لمُعَاينَةِ العَالمِ  ، وَتأمُّل شرْطِ الوجُودِ الإنسَانِيِّ ” ، وَرُبَّمَا كَانَتْ مثلُ هذه التَّعمِيمَاتُ وَرَاءَ المُبَالغَاتُ الَّتي أكَّدَتْ عليْهَا القَصِيدَةُ ، وَانْدَفَعَتْ نَحْوَهَا في عَشْوائيَّةٍ ، وَظلَّ ذلكَ جُزءًا منْ المَحَاذيرِ الَّتي طَرَحَتْهَا قَصِيدَةُ النَّثرِ برَاهنيَّتِهَا المُطلَقَةِ وَالمُخِيفَةِ وَبروحٍ قطِيعيَّةٍ ، لمْ تُفرِّقْ بينَ العَامِّ وَالخَاصّ.

  وَعلى الرَّغمِ منْ التَّمايُزَاتِ اللافِتَةِ الَّتي طَرَحَهَا عديدٌ منْ الأصْوَاتِ الشِّعريَّةِ الجَديدَةِ ، إلاَّ أنَّ لغَطًا كثيرًا وَتشَوُّهًا في المَفَاهِيمِ وَالمَقُولاتِ ، دَفَعَ إلى درجَةٍ منْ العُنفِ المُتبادَلِ ، بينَ مُختلَفِ التَّيارَاتِ المُتَصَارعَةِ ، وَأحْيانًا بينَ أبناءِ التَّيارِ الوَاحِدِ ؛ لذلكَ مَازلتُ مُندهِشًا منْ تقسِيمِ شريف رزق شُعرَاءَ قَصِيدَةِ النَّثرِ إلى تيَّاريْنِ رَئيسيَّينِ ؛ أوَّلُهُمَا التَّيارُ الحَدَاثيُّ القادمُ ، حسبَ تعريفِهِ ، منْ تُرَاثِ قَصِيدَةِ التَّفعيلَةِ ، وَثانيهُمَا التَّيارُ مَا بعدَ الحَداثيِّ ؛ الَّذي يبدو في نظرِ رزق هُوَ الأخْلَصُ للمفاهيمِ الجديدَةِ ، وَيَبْقَى لَدَى النَّاقدِ تيَّارٌ حائرٌ، يقفُ بينَ التَّيارينِ ؛ هُو الَّذي يُمَاهِي بينَ الحَدَاثَةِ وَمَا بَعْدَهَا. 

وَيَبْقَى في النِّهايَةِ نَاقدُنَا وَشَاعرُنَا شريف رزق وَاحِدًا مِنْ أخْلَصِ أبنَاءِ جِيلِهِ لِقَصِيدَةِ النَّثرِ؛ كتابَةً وَنقدًا ، وَهُوَ ، بامْتيازٍ، وَاحِدٌ منْ ألمَعِ كاتبيْهَا وَنَاقديْهَا.    

                   

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم