سلطان الحويطي
ما أن دخل مكتبه حتى خلع “الجاكيت”، وارتدي البالطو الأبيض، ثم جلس على الكرسي الدوار المريح. ركز نظارته على طرف أنفه، وسحب دفتر مراجعات المرضى الموجودين في المستشفى، وأخذ يدقق النظر في الصفحات الصفراء بإمعان شديد.
“سامي محمد”.. شلل تام في الساقين نتيجة ارتطام أسفل الجمجمة بجسم حاد إثر حادث تعرضت له السيارة التي كان يستقلها.
رفع الدكتور “حامد عبد السلام” عينيه عن الدفتر المفتوح، وتنهد بارتياح، وألقي برأسه إلى الخلف ينظر إلى مربع لمبات الفلورسنت التي تلقي ضوءا هادئا، رومانسيا.
في الغرفة رقم 3 بقسم العناية المركزة بدا “سامي” في سريره كقطعة لحم مشوهة موصلة بعشرات الأسلاك إلى أجهزة إليكترونية عديدة، ذات شاشات وعدادات رقمية، ورغم أنه بدا مستكينا تماما، كخرقة مهملة، إلا أن عقله كان يعمل بنشاط موفور العافية، يستعيد بإلحاح هذه اللحظات الفارقة، المرعبة….
“علي” يقود السيارة ذات الدفع الرباعي على الطريق السريع بسرعة فائقة، بينما هو، و”ناصر”، في الأريكة الخلفية يشاهدان فيلما مثيرا على شاشتي العرض، الصغيرتين، الملتصقتين بخلفيتي الكرسيين الأماميين، يتبادلون التعليقات الجنسية، والضحكات المرحة تشارك أزيز الموتور الهادئ في صنع حالة من البهجة.
كان الغروب بالخارج يلون الصحراء الممتدة بلون النحاس الأحمر، وغزال بعيد يركض، بكل قوة، محاولا الهرب من بضعة ضباع جائعة…
ثم انقلب الكون ببساطة، إثر دوي رعد مفاجئ، حل بعده سكون في لحظة كالومضة…
ما الذي جرى؟!
في استفاقة خاطفة رأى “سامي” باب غرفته يفتح بهدوء، والدكتور “حامد” بمعطفه الأبيض، يدلف إلى الداخل بحرص المتلصصين..
لم يستطع إبقاء عينيه مفتوحتين، ودار سؤال في عقله: “كم الساعة الآن؟”.
ـ أنا الدكتور “حامد”.. أعرف أنك تسمعني جيدا..
لقد سمع صوت دوي شديد قبل أن يتهاوى الكون، وينطفئ الغروب بسحابات الرمل المتصاعد إلى كبد السماء، لقد انفجر الإطار حتما.
هل سيموت الآن؟!
ـ للأسف.. ليس هناك أي أمل في شفائك..
“لماذا يصر هذا الطبيب على زيارتي بمفرده.. وفي أوقات تبدو ساكنة.. ثم لماذا يتعمد أن يقول لي هذا الكلام القاتل؟!
لم يتمكن “سامي” من الكلام سوى بعد مرور شهر من دخوله للمستشفى، فتح عينيه فتحة منكسرة، فرأى وجه أبيه يطل عليه بلهفة، غير مصدق أن ابنه يستفيق أخيرا.
كان “سامي” يحرك شفتيه، يحاول الكلام، فقرب والده إحدي أذنيه من الشفتين المرتبكتين، فسمح فحيحا باهتا: علي.. ناصر؟
لم يرد والده أن يصدمه بالخبر المحزن وهو بالكاد يستفيق، فابتسم وقال:
ـ الحمد لله.. لأنك بخير يا ولدي.
“إجابة أبي تعني أنهما قد ماتا”.
كانت عينا الدكتور “حامد” تبرقان رغم خفوت الضوء في الغرفة، مال برأسه باتجاه أذن “سامي”، وهمس:
ـ أعرف أنك تكرهني.. لكن ثق في أنك مخطئ بكرهك لي.. أنا أقول لك الحقيقة التي تفزعني شخصيا.. أكثر ما يمكن أن يفزع طبيبا ما هو موت إنسان يقع تحت إشرافه الطبي..
.. عاد إليه صوت “علي” وهو يزعق:
ـ الضباع ما لها قلوب.. ما تستطيع التمييز.. ألا تجد غير الغزلان الرقيقة لتاكلها؟!
وبينما يدور بوجهه ناحية المطاردة البعيدة في رمال الصحاري شعر بيد “ناصر” تلكزه في جنبه، بينما يهتف ممازحا:
ـ دعك من الغزلان المفزوعة من مطاردة الضباع وانظر إلى الشاشة.. هنا غزلان تستمتع بالتهام الضباع.
ثم دوي الرعد، وانقلاب الكون، والغيبوبة.
ربت الدكتور “حامد” على كتف “سامي” بحرص شديد، وقال:
سأغادرك الآن.. فكر جيدا في أنه لم يتبق غير ساعات قبل أن تموت.. ربما ليس أكثر من يوم .. يقولون إن الموت بشع.. هذا الموت أنت الآن أقرب إليه مني.. إحساسك به أصدق من إحساسي به.. أتمنى لو تكون هناك فرصة لأراك مرة أخرى.
“لو أملك القدرة لبصقت عليك يا طبيب الحسرة”.
ابتسم الدكتور “حامد” وهو يغادر، فرغم أن عيني “سامي” مغلقتين تماما، ووجهه خال من أي تعبير، إلا أنه لا يعرف لماذا أحس بأن “سامي” يود لو يستطيع أن يبصق عليه.
ماتا على معصية، مشاهدة الأفلام الإباحية، لم يُحسن ختامهما، لماذا أبقاني الله دونهما؟! علي وناصر كانا دائما أحسن مني.. أكرم مني.. باشا الوجه.. فقط كانا يحبان اللهو والمرح..
كان قد مضى على وجوده في غرفة العناية المركزة شهران، عندما استفاق استفاقة ثانية، أطل عليه وجه أبيه، لم يكن نضرا مثل المرة السابقة، وإنما شحب تماما، وصار ممصوصا، مرضت عيناه، واستطالت لحيته، لكن صوته رقص: حمدا لله على سلامتك يا “سامي”.
دخل وجه آخر في المدى الضعيف لرؤية “سامي”، وجه الدكتور “حامد عبدالسلام”، مبتسما، الثقة في ملامحه..
ـ هذا الدكتور حامد” يا ولدي، المشرف الجديد على علاجك، لقد بذل كل جهده مع “ناصر”، لكن الأمر لله من قبل ومن بعد.
الدوي، تنحرف السيارة بجنون نحو الرمال، تتقلب كدجاجة ذبيحة، قبل أن تهمد، الشمس تسقط، وفي محاولة واعية أخيرة قبل أن تخطفه دوامة الغيبوبة، رأى “ناصر” ملقى بعيدا منكفئا في الرمال، بينما جسد “علي” منبعج تحت هيكل السيارة.
خيل إليه أنه رأى الشاشة الصغيرة وهي ما زالت تعمل بصفاء.
لماذا يشعر دائما بدخول الدكتور “حامد” إلى الغرفة؟! الوحيد الذي يحس بمجيئه!
ـ مساء الخير يا “سامي”.
“وجهك الناعم كجلد أفعى ملساء لا يبشر بأي خير”.
ـ مات أبوك.
انتفض “سامي”، وظهرت الرعدة واضحة لناظري الدكتور “حامد” فاتسعت ابتسامته:
ـ أنت محارب عتيد يا سامي.. أعييت الموت.. الأصحاء يموتون وأنت لا تموت.
“هل مات أبي فعلا؟ أم أن هذا الحيوان يمارس حقارة جديدة ضدي.. “.
ـ مستحيل أن أكذب.. لست بهذا السوء.. ربما أنا الرجل الوحيد في كل هذا العالم الذي يؤمن بقوة الحقيقة.. الحقيقة هي أنك مصاب إصابات بالغة.. لو خرجت من المستشفى لن تكون حياتك سوى رحلة شاقة.. لن تتعب فيها وحدك.. ولكنك ستتعب آخرين.. أنت تحتل هذا السرير لخمسة أشهر.. بينما غيرك يحتاجه بشدة.. هذه الحقيقة يجب أن تصيبك في قلبك فتقتلك.. لكن الأكاذيب التي تحيط به تقاتل الحقيقة باستماتة.. أي حياتك معلقة بحفنة اكاذيب.
ارتبك ذهن “سامي” جدا، وقسوة كلام هذا الطبيب أنسته قسوة خبر موت والده، القسوة النابعة من الحقائق فتاكة.
ـ قلب صديقك “ناصر” كان نظيفا.. ليس محفلا للأكاذيب.. همست في أذنه بالحقيقة فور أن رأيته.. ليلا طبعا.. بمفردنا طبعا.. وعندما طلع الصباح كان قد مات.
“على وناصر أفضل مني.. ختم لهما بنهايتين أحسن من نهايتي.. لم يكتب لأيهما أن يتعاملا طويلا مع هذا الشيطان الذي يلبس جسد طبيب.. أنا لست على قيد الحياة إذن كي أختار الاتجاه المؤدي إلى الله.. الله يعذبني الآن”.
ـ السرير المجاور لسريرك تبدلت عليه أكثر من عشرين حالة..
رغم أنه لم يدم النظر طويلا نحو الغزالة التي يطاردها الضباع في أفق الصحراء، لكنه أحس بحرارة صدق قلب الغزالة في الهروب من الموت، إنها تجرى بعنفوان لا تتسرب إليه ذرة واحدة من يأس، وعندما سقطت أخيرا فلأن جسدها لم يستطع مواكبة إرادتها، بالتأكيد لا تسقط أي غزالة أمام ضبع إلا عندما تتفتت مفاصلها.
لأول مرة منذ خمسة أشهر يتمكن من فتح عينيه بكامل اتساعهما، وركز ناظريه في حدقتي الدكتور “حامد”.
“ما تسميه أكاذيب ليس إلا إرادة أيها الذئب.. والإرادة حقيقة.. ومن حقي أن استنزف عمري كاملا.. حتى وإن عشته معاقا.. لن تتمكن من تفتيت مفاصلي.. وسأكون الغزالة التي تستمتع بافتراس ضبع”.
امتقع وجه “حامد عبد السلام”، لكنه تبلد تماما، مثل وجه تمثال شمعي، عندما سمع صوت “سامي” يخرج واضحا من بين شفتين ثابتتين: ستموت فورا.
الكلمة ارتجت في عقله كالرعد، وشعر بزلزال يداهمه، فانسحب إلى خارج الغرفة وهو يترنح.
علت قهقهة “علي”، وتساءل: هل يكون العالم أجمل إذا صار بإمكان الغزلان أكل الضباع؟
فتح عينيه، فرأى وجه أخيه، وكان لا بد أن تترقرق عيناه بالدموع.
في الوقت الساكن، الذي لا يسمع فيه سوى صوت سريان الكهرباء في الأجهزة، وتشعر فيه أرواح المرضي بأنها أقرب إلى الجليد، أحس “سامي” بوجود الدكتور “حامد”.
انتظر ظهور وجهه في المساحة المتاحة لرؤيته، وأخذ يهيئ نفسه لمصادمة وقاحاته، لكن وجهه لم يظهر.
لا يمكن أن يخطئ وجوده الذي يشبه رائحة السمك العفن، لكنه لا يظهر، حتى لا يسمع صوت خطواته الذي يشبه صوت زحف السحالي.
هل ….
بكل ما يملك من قوة حاول أن يدير رأسه لينظر باتجاه السرير المجاور.. فرائحة السمك المتعفن كانت تصدر منه بقوة.