سحـابة صيـف

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

آية إيهاب

كانت المرة الثانية خلال اليوم الذي يبلل فيه "طلبة" سريره، وكانت المرة المليون بحسب ما صرحت أمه التي تخبره فيها أن يمسك نفسه حتى يصل للحمام. اكتفت هذه المرة بضربه على مؤخرته متوعدة له أن تخبر أباه إن استمر على هذا الحال، فلا يمكن لطفل تجاوز السادسة من عمره أن يبول في سريره حتى الآن، فأقرانه قد توقفوا عن هذه العادة منذ زمن طويل "ولا عايزنا نرجع نلبسك البامبرز زي زمان" تقولها وتضحك، فيعلم أن مزاجها اعتدل، ليجيب بالنفي، فتتمنى له ليلة سعيدة وتذهب.

في نفس الغرفة له من الإخوة الذكور اثنين. استيقظ أحدهما، فشق صوته ظلمة الغرفة قائلًا "يا عيل يا عيل بتعمل حمام على نفسك يا عيل"

 "إنت اللي عيل وستين عيل"

 ظلَا يتراشقان الإتهامات بالمعيلة حتى كلَا وناما، ليستيقظ ثلاثتهم على صوت والدتهم "اصحوا يا عيال قرفتوني بقالي ساعة بناهد فيكوا هتتأخروا على مدارسكو"

أثناء طريق المدرسة كان "طُلبة" يتابع الأرض، في إحدى المرات وجد جنيهًا معدنيًا، وفي مرة أخرى وجد ورقة من فئة الخمس جنيهات، في المرة الأولى أخبر والدته فأخذت الجنيه قائله "مش بتاعنا هنتبرع بيه للجامع" ثم رآها تضعه في صدرها، ولم تذهب للجامع، في المرة الثانية أخفى الأمر، وقرر أن يحتفظ بالخمس جنيهات، تابع طلبة الأرض يوميًا كي يقي نفسه أيضًا من الأحجار والقطط والكلاب التي تقترب من حجمه، أراد في حارة ضيقه أن يقي نفسه مما قد يعوقه عن المسير.

لم يكن منزل طلبة يحوي شرفة، وكانت مدرسته تطل على بناية عالية تسد الطريق إلى العالم، لذا عندما رأى السماء للمرة الأولى باتساع كبير في رحلة المدرسة لحديقة الفسطاط ظل مشدوهًا أمام تكتلات السحاب الكبيرة. سأل مدرسته إلى أي مدى يصل؟ ثم سألها إن كان يمكن أن يصل إليها؟ ولما تشبه جميعها أطفالًا يبكون؟ ثم عاد وأخبرها بأنه قد وجد حصانًا وسط الأطفال الباكية، وعندما أخبرته مدرسته أن يلعب مع أقرانه ذهب إليه ليسألهم إن كانوا يروا ما يراه. توقفوا قليلًا أمام السحاب، وروى كلٌ منهم ما يراه، ضحكوا لأن اللعبة استثارتهم، ولكنهم ما لبث أن فتر اهتمامهم بعد فترة، وعادوا لكرة القدم من جديد، فأغرت طلبة الكرة، وعاد للأرض من جديد.

"ماما هو إحنا ليه مش بنطل عالسحاب؟" يسأل طلبة

 تجيب الأم أنه حينما ينصلح الحال ستأخذه في رحلة صيفية للإسكندرية، سيرى البحر والسماء، فيباغتها طلبة بفيض من الأسئلة، حول إن كان السحاب يتواجد كل يوم طوال السنة، وحول إذا كان من الممكن أن يرتفع إليه بطيارة؟ "هيوجعنا السحاب ده لو دخلنا فيه، وهنشوف إيه لو دخلنا جواه؟" تخبره أمه أنها لم تطير أبدًا فلا تعرف، ليتمنى طلبة لو كانت والدته عصفورة.

في رحلة أخرى لحديقة الحيوان في العام نفسه اشترى طلبة غزل البنات. تخيله قطعًا من السماء، ولما حاول أن يشب بجسده إلى مكمن قلب آلة غزل البنات فيري العالم السحري لقطع السحاب ظل يتقافز فصارت الرؤية المتقطعة أكثر تشوشًا، لقرر الوقوف إلى جانب البائع وسؤاله "عمو إنت بتعمل غزل البنات إزاي؟"

 كان البائع لديه من المشاكل ما يكفيه لأن يطبق فمه للأبد أمام ثرثرة الغرباء، ولكن ما إن وجد في يدا الطفل قطعة من حلواه، فأخبره أن هذه القطع تصنع من السكر "أحط السكر هنا في الدايرة ويتعمل الغزل... يلا يا حبيبي شوف ماما عايزه إيه؟"

 "طاب والسكر إزاي بيبقى كده؟"

 اصطنع البائع الصمم، فأعاد طلبة السؤال مرة تلو المرة، وعندما أدرك الأمر قال "طاب إنت ابن كلب" ثم أطلق لقدميه العنان قبل أن يصل إليه بائع الغزل.

في الطريق إلى المدرسة كان طلبة مشتتًا بين النظر للأرض والسماء، وحتى وإن أفلح في النظر فلا يتمكن من رؤية واضحة، فالعالم المتزاحم بالأسفل يضع أوزاره بالأعلى أيضًا، فلا يبقى إلا بعض البقع الصغيرة غير الكافية لمشاهدة واسعة لقطع السحاب المتناثرة بالأعلى

"هطلع السطوح معاكي ياماما"

 "لأ إنت لسه صغير لحسن تقع ولا حاجة مضمنش".

 كانت "برنسيسة" والدة طلبة لا تصعد للسطوح إلا للغسيل، فلا يملكون بط أو فراخ لا هم ولا سكان العمارة، أكدت له أمه أنه عندما يصير طويلًا فإنها ستتركه يصعد للسطح كما يريد، لذا حينما طلب حذاءً جديدًا لم تدر أمه أن يطلبه إلا ليشتري آخر بكعب أطول فيصير طويلًا. أخبرته "طاب ما اللي عندك زي الفل" أكد لها أنه ضاق عليه، فوضعت إصبعها على حافة حذائه تختبر المسافة بين إصبعه والحذاء، لتؤكد "ما لسه كويسه أهه" لم يستطع المماطلة، فتوقف عن الطلب.

لم يحتاج أي من المدرسين حصة الرسم في هذا الأسبوع، فتبقت لصاحبتها الأصلية، والتي لم تجد في ذهنها أي فكرة حاضرة، فأخبرت الأطفال وهي تقشر ما بقى من البطاطس أن يرسم كلٌ ما يريده. فكر طلبة أن يرسم بيوتًا وأشجارًا وأطفالًا تركب العجلات بأحذية جديدة، ولكنه استعاض عن كل ذلك بمجموعة من السحب في كراسته، وعندما طالبتهم المدرسة أن يرفع كل منهم لوحته أثنت عليهم، ومضت في طريقها للخروج فاختفت بين الطلاب والمدرسين، وفي الطريق رفع طلبة كراسته مثلما رفعها في الفصل، ولكن ليقارن بينها وبين السماء هذه المرة، فلم تفلح مقارنته، ليقرر أن يصعد للسطح. كان ضيقًا مليئًا بكراكيب البيوت التي لم يرد ساكنيها التخلص منها فوضوعها بداخله، لتكسوها الأيام ترابًا، وتحيلها الشمس إلى ألوانٍ باهتة، مذيبة الجزء البلاستيكي من كل منها، كما أسكنها الليل سكانًا عدة يتنوعون ما بين الفئران والسحالي والصراصير، جعلت طلبة عند التعثر يتخبط في بعض منها، خرجت الصرخة من طلبة، ثم سبق صوته قبل الارتداد للحائط، ولحسن حظه لم تسمعه أمه.

في الليل بال طلبة فراشه، وبكى كالعادة بعد حلم سئ، جاءت أمه مقطبة جبينها "عملتها تاني يا معفن... مش كنا بطلنا العادة الوسخة ديه؟" على وجهه هذه المرة تلقى الضربة، فأخذ يبكي، حتى حين جرته إلى الحمام، وعندما أنهت تنظيفه أخبرته أن لا مفر من الذهاب إلى الطبيب الذي سيعطيه حقنة كبيرة من بلبله ستدخل من جانب وتخرج من الآخر، وعندما تركته ومضت حلم طلبة حلمًا جديدًا من أحلامه كان بطلها في البداية هو الطبيب، الذي حقنه من بلبله كما أخبرته أمه، ليجد طلبة نفسه له عدة منافذ يخرج منها الماء، فأخذوه واستبدلوه بالدش المعطوب الذي يمتلكوه، ولكما حاول الصراخ كان يتحول أكثر فأكثر إلى دش، صرخ فبال سريره من جديد. "ده إنت مفيش فايدة منك خلاص!" ثم تلقى طلبة قلمًا على وجهه.

في حجرة الطبيب كان طلبة يجلس مع والدته ولا يعلم علته، تخبره أمه أنه مريض، ويسأله الطبيب عن شكوته، فتجيب الأم بدلًا عنه، ويعطي الطبيب الدواء، ثم تشده من يده ليتناول الدواء

 "مبحبش الفوار"

 "طاب ما إنت بتشرب فانتا!"

 "لأ الفانتا مسكره وحلوة ده مر"

 "اشربه على بوء واحد مش هتحس بطعمه"

 يشربه، تشده أمه من يده من جديد "خد اقعد هنا في الطشت ده وإياك تقوم إلا أما أقلك" يجلس في ماء فاتر له رائحة الدواء، يعجبه الطشت الدافئ، ويفكر في البحر والسماء، الجائزة الموعودة عند انصلاح الحال. يعلو صوت طلبة أثناء غنائه ثم يوجه حديثه لوالدته "ماما. إمتى هينصلح حالنا؟"

تضحك "إشمعنى يا طلبة؟"

 "يعني يلحق ينصلح الصيف ده؟"

 "إشمعنى الصيف؟"

"عشان نسافر إسكندرية نشوف السما والميه".

في الشتاء صباحًا يبدو صناعة الأبخرة عن طريق الفم حدثًا جلل. يصنعها طلبة ويفكر في أن هذه الأبخرة الصغيرة تشبه السحاب في نهاية الأمر، فهل يمكن صناعتها منزليًا مثلًا؟ ثم عندما ابتل في اليوم نفسه وأغرقه المطر سمع أن السحاب هو السبب! سأل مدرسه، وسأل والدته. لم يستطع أحد أن يخبره أبدًا بإجابات شافية لكل تساؤلاته. كان للجميع دور يؤديه في الحياة الممتلئة عدا الإجابة عن تساؤلاته، ورغمًا عن ذلك كانت تساؤلاته لا تنضب.

"هيجيلنا عمتكوا من السفر وولادها خليكوا حلوين النهاردة". كانت العمة تشبه شخصية ما منمقة خرجت من مسلسل الساعة السابعة في التليفزيون المصري. امرأة لا تشبه والدته بأي حال من الأحوال، أما ابنتها كانت تشبهها وإن كان وجهها أكثر طفولية وملائكية منها. "وإنت اسمك إيه؟" سألت الابنة

 أجاب "أنا اسمي طلبة"

"اسمك حلو خالص يا طلبة"

 "وإنت اسمك إيه؟. إنتِ اسمك جميلة؟"

 "إنت عايز اسمي يكون جميلة"

 "أيوه"

 "خلاص يبقى ده اسمي"

حاولت برنسيسيه فتح مجال الحديث، فأخبرتهم عن جارتهم التي تبين أنها حرامية وناقصة، وعن ابنة خالة عمة زوجها التي هربت مع عشيق لها ربنا يعافينا، وعن ابنها البكري الذي يزاوج بين العمل والدراسة بمهارة، وعن الصغير الذي يدوخها كل ليلة خاصة في الشتاء، حيث أنه مثل الأطفال مازال يبول على نفسه. سألته جميلة "صحيح؟" فامتقع وجهه، وصار يشبه طبق الصلصلة وولى مبتعدًا داخل غرفته. عندما لحقته جميلة سألته "بتحب تعمل إيه؟" فأجاب بعدم علمه، وعندما أخرجا كراسات المدرسة كي يجدا ما يحبه، وقع عين جميلة على كراسة الرسم، والتي اختيرت صفحة من منتصفها دون عناية من أجل أن تتحول إلى رسمة بدائية لسحاب، بمزيج من اللون الأصلي للكراسة الأبيض، ولون أزرق بقلم خشب له سن مدبب.

"جميلة الرسمة" ابتسمت جميلة

 "أنا مبحبش الرسم أنا بحب السحاب وعايز ألمسهم بإيدي هو ينفع؟"

"ينفع طبعًا مسمعتش عن ناطحات السحاب؟"

 "لأ مسمعتش حاجة خالص، وكل أما آجي اسأل ماما تقولي بس"

"طاب إنت عايز تعرف إيه؟" فسأل طلبة.

"هو الواد ده مبيصدق يشبط في حد ويهريه كلام! تعالى يلا وسيب طنط"

"خلينا عادي أنا مش متضايقة أنا قولت أساعده شوية".

 عندما عاد طلبة وجميلة وحدهما في الحجرة من جديد، رفعت جميلة الكراسة عاليًا وقالت "السحاب ده يا طلبة بينزل منه الميه فتعيش النباتات وتاكل منها الناس والحيوانات. من غير السحاب الناس تموت!"

"يعني... يعني السحاب بيعمل بي بي زينا؟"

 فهمت جميلة مقصد طلبة وأجابت "تعرف البي بي مش حاجة وحشة. البي بي بيخلينا نتخلص من الحاجات المؤذية جوه بطننا. لكن نقدر نتحكم فيه... زي السحاب بتنزل منه الميه في الشتا بس والصيف لأ"

"ما أنا مش بقدر أمسك نفسي في الشتا برضه"

"عارف؟ سحاب الشتا ده السحاب النونو. أهله بسيبوه يطلع في الوقت ده. أما سحاب الصيف ده السحاب الكبير، عشان كده مش هتلاقي المطر بينزل في الوقت ده" تخيل طلبة جميلة كسحابة هي الأخرى، سحابة صيف كبيرة، حتى لو بالت فراشها سيكون له رائحة الأرض ما بعد المطر.

"يلا ندى اتأخرنا" تصيح عمة طلبة.

 "يعني إنت اسمك ندى؟"

 "لأ طالما إنت قولت جميلة يبقى أنا خلاص جميلة"

 "لأ أنا رجعت في رأيي"

 "خلاص قول يا ندى"

 "لأ أنا هسميكي سحابة".

عندما أحكم طلبة الغطاء فوق رأسه، قفز بداخله حلم جديد، فكأنه سحابة. سحابة لا تدري بأي المواسم هي! تسأل المحيطين: إحنا في شتا ولا صيف؟ فلا يجيب أحد. تسألهم إن كان يجب أن تروي النباتات الآن أم هذا وقت السحاب الكبير، وعندما فقدت السحابة الأمل كادت هي وطلبة أن يبولا الفراش، ولكن طلبة وسحابته قد رأيا الشمس من بعيد فأدركا أنهما سحابة صيف. قفز طلبة من فراشه الجاف، وظل يردد "أنا سحابة صيف" استيقظ أحد الأخوان وقام بسبه، فأخذ كراسته نهار يوم الأجازة، وصعد للسطح هذه المرة ومضى يقارن هذه المرة السماء بما رسمه، وهو يفكر "المرة الجاية هوري لسحابه الرسمة، ورسمتي هتكون أحسن".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القصة الفائزة بالمركز الثاني بمسابقة مركز طلعت حرب الثقافي ـ 2016 






مقالات من نفس القسم