نهلة عبد السلام
“ظروف خاصة”.. تلقينها بلا بال.. تتشكل وحشاً.. يمزقنى.. يبتلعنى.. أستقر بمعدته الخاوية.. ثمة أصوات جمة ولا أحد.. يضربنى صداها بالجنون.. مبعثرة الحروف تندفع منى.. بلا رابط بلا ضابط.. أقرب إلى شفرة.. وحده الصدق يحيلها إلى جملة.. جملة مؤلمة.. واضحة صريحة.. تشخيصية كأشعة مقطعية، تقرير يمنحنى قدراً يسيراً من أمان.. تقرير يضعنى فوق الظروف.. ضد الظروف.. لا تحتها ولا معها.. تلك التى يغرها خافضى الروؤس.. ملتوى الأعناق.. تعدهم ذبائحها.. وعلى خضوعهم تُقام ولائمها.
الذبائح بلا وعى.. لا تعرف أى موضع يستقبل نزيفها.. هى فقط تنزف روحها وذنوبها وتأنيبها وجلدها ذاتها، وهذا بالقطع ما أتى بها تحت سكين الجزار.. وسط لفيف من كفوف يغبطها لون الدماء.. تعده شئ لزوم الشئ.. تطبعه على جدران تشبههم فى صمتهم.. فالإزعاج شيمة الذبائح ووحدها من تسبب الضجيج.. الصداع الذى حتماً لا يروق جمهور المشاهدين.
الوعى لما خلف ردات أفعالنا من الإنكار.. الإختباء.. الإلتفاف.. التحايل هو ما يعيدنا إلى رشدنا.. حين نستسلم لهوانا.. مُخدرين بمذاقه.. مذاق الجنة.. الجنة التى غادرتنا وغدرت بنا.. ولم تشتاقنا منذ طُردنا منها، ربما السبيل الوحيد لعودتنا إليها هو الحفر.. فى الصلب.. فى القاسى.. فى المعاند.. فى المكابر.. حفر قناة عملاقة بحجم غضبنا.. فارهة بطول نقمتنا.. مع تفجر الماء نتناوب مهمة التجديف.. رفقة بعضنا حتماً سنصل.
من قال إن الجنة فى الأعالى!.. الجنة بداخلنا.. بضع منا.. يعمينا عنها شكوكنا وظنوننا.. تشبسنا بقوالب لا تقبل أخذ ولا رد.. نتصارع وشبح حقيقة.. ننهزم.. وسر أغلب هزائمنا.. الثقة.. الثقة المهزوزة المترددة.. الثقة المطعمه ببذور الشك.. الشك بالكل وفى الكل، الشك التى يستهلك طاقتنا كى ينمو.. يتفرع.. يتوغل بجذورنا.. ينخرها يزرع سوسه فيأكلها.. وما بقى لن يكون سوى حطب.. على أنقاض الثقة تشتعل الحرائق.. وثمة مرضى يرقصون حولها.. مرضى الدم والنار.
كمثل مبتلين بفقدان حاسة ومعايشة حرمان مدى الحياة.. معتلين لم يتذوقوا العافية منذ الشهيق الأول وحتى الأخير.. مقبول إعتبارهم على ذمة الظروف.. ضمن لائحة الخاصة.. أما تلك المحدودة الوقتية المشروطة.. فإعتمادها على من تلقوها.. صلابتهم.. كراهتهم معاقرة الليونة وما تفرضه من صبهم بقوالب أعدها حمقى.. من صموا آذانهم عن الضجيج.. سمحوا لصوت أعماقهم بالطفو.. بالظهور إلى السطح.. بتوجيه دفتهم.. فرد أشرعتهم والغناء.. فالغناء أقوى مضادات الحزن.. لم يتبعوا الجوقة.. فحذفوا كلمات وأضافوا أخرى حتى ولو مع نظم مشهور.. خلقوا نوتهم فأحبوا لحنهم.. لحنهم المميز لا الخاص، من انتقوا عدسات لاصقة قضت من رحيق لا من زجاج.. رحيق ريحان وأقحوان.. رحيق يبدد رائحة الحرائق والهزائم والإنكسارات.. يتحول نظرهم إلى الجانب الآخر.. الكوب الممتلئ حتى الحافة لا المنتصف كما يزعمون.. حافة توقعاتهم وظنونهم.. يقينهم وثقتهم، عدسات لا ينزعونها إلا حين يغفون.. فيتكفل ملاكهم الحارس بتعويض ما نفذ من أكوابهم.. يعيده كاملاً يسر ناظرهم حين يستعيدون وعيهم.
لا خلق خرج من خلق دون ظروف خاصة.. هكذا يؤكد علم الكيمياء.. الأشياء لا تصير إلى قيمة.. قيمة ثمينة دون الخضوع لضغوط أو خلخلة.. تعرية أو حجب.. الظروف العادية تترك الأشياء على حالها.. على وضعها.. فهل من ملل ورتابة أكثر من ذلك؟، التميز هو ما يمنح المذاق.. يضفى النكهة.. يؤجج الرغبة.. الرغبة بالإستمرار.. بتجربة حيوات جمة تعيد صياغتنا على نحو لم نكن نتوقعه ونحن لانزال على الحافة.
معلوم المواجهة باهظة الثمن.. تضعنا فوق المواقد وعلى الموائد وفى أطباق المتربصين وأخيراً بأفواههم.. مضغة.. يلوكون يتلذذون يشمتون.. وبعد الشبع يصيبهم الملل فيتطلعون إلى صنف جديد.. مخلفين أطباقهم كمثل صفحات فارغة.. أدوات طعامهم مغرية كأقلام.. كفرش تلوين.. هو الفصل الثانى المنقوش والملون بعناية، نهر مخطوط.. بعذبه تمتلئ كفوفنا.. نروى عطش فصلنا الأول.. نمحى ظمأه من ذاكرتنا، زهور بكر.. بها نشد تجاعيدنا.. زهور نطفنا تعيد إلينا جدائلنا.. جواربنا البيضاء وتنورتنا القصيرة.. ركبنا المجروحة بإستمرار من اللهو بالدراجات.. الجرى خلف بعضنا.. لا الفرار من بعضنا وأنفسنا أيضاً.. طعم الحلوى وهشاشة مقرمشات الأكياس التى كنا ندمنها ويحذروننا منها فلا نأبه.. فالمتعة تهزم الخوف.. بل وتهزم كل شئ.
المواجهة صفة المعنيين بإكتشاف أنفسهم.. فض أصدافهم بتسلط من شهوة فضولهم.. رغبتهم بالتورط مع ذواتهم.. التوغل فيها وكشفها على الملاء.. غير آبهين للمتربصين بهم.. هؤلاء غايتهم وصم الخارجين عليهم أما وهم فغايتهم لؤلؤ يفوق ما وجده على بابا بالمغارة.. من غامر فبقى اسمه بينما أربعين حرامى ذهبوا بلا ذكر.