– سامحنى مولاى. صدق لسانك. ليس فى الحق عيب. قلنا لهم: راقبوا كلمات مثل (خر..ووو..ف- ك…ب…ش- أرررر…نب- حظ..يي..رة – ميدان).
– لكن ليس لدينا ميادين. لقد حولناها من زمان إلى واجهات زجاجية؛ لعرض أحدث وسائل التكنولوجية الغربية من صور، وأفلام، ومسرحيات، وعروض عالمية بعدما رأينا أثر تلك الميادين على الملوك الخائبين فى البلدان الأخرى.
– إنها كلمة مفتاح مولاى الملك (الوزير الأول حمد الله فى سره أن الملك لم يأمر أحد حراسة المدججين بالسلاح بتصفيته إثر نطقه بكلمة خروف – كبش – أرنب. رغم أنها كانت كلمات للتأمين فقط). مولاى! صفحات التواصل هى الأخرى راقبناها بكل صرامة.. تخيلوا أنهم يستطيعون تسيير البلاد، والتحكم بها من خلال التكنولوجيا، فلاعبناهم باحتراف.
– كيف يا وزيرى النبيه؟!
– أتينا بعلماء نفس على أعلى كفاءة؛ ليحللوا لنا شخصيات كل فرد على حدة من صفحات تواصله الاجتماعى. مزاجه، طباعه، متى يتحرك، أسراره، كيفية التحكم به. أتينا بخبراء ليحددوا مكان النشطاء. أدخلنا من يمزق الصف. قطعنا الاتصالات يومًا لنعرف ما هو رد الفعل. نعرف عن الجميع أكثر مما يعرفون عن أنفسهم.
– ممتاز. تستحق مكافأة بجدارة، هل هناك من شىء آخر؟
– مكافأتى هى خدمة مملكتنا العظيمة، وملككم الشامخ مولاى، وأمن كل فرد من أفراد عائلتكم المبجلة. حفظها الله! هناك أمر واحد فقط بسيط أحتاج فيه هذه الفراسة التى وهبكم الله إياها دون سائر أهل المدينة.
– تفضل! ليس لدى وقت كثير.
– رجل واحد. يا مولاى! بعضهم يطلق عليه الحكيم، والبعض يقول عنه الأعزب الأبدى. والكثيرون يصفونه بالمتنبئ الضاحك، وقليلون فى المقابل يصفونه بالمجنون.
رقم 7 برز فى جبهة الملك، وفوق حواجبه المصبوغة بالأسود بالضبط منذرًا بعقاب. الوزير الأول يعرف أن المكافأة كثيرًا ما تكون بلا سبب، وأن القتل _ أيضًا _ داخل تلك المملكة بالذات هو على أتفه سبب. التقط نَفَسًا سريعًا، وزفره؛ حتى يستعيد توازنه..
– مولاى! الرجل لا يملك تليفونًا، ولا حسابًا خاصًا على أيَّة شبكة تواصل اجتماعى، ولا تليفزيونًا، ولا كتبًا، ولا زوجة، ولا أولادًا، ولا أصدقاءً، ولا عملًا.
– أعطوه مالًا ليشترى كل ذلك، ثم يتلهى بعيدًا عنا بألعابه الجديدة.
– المال جلب علينا نتيجة عكسية. أعطيناه، فوزعه على الفقراء، فزاد هيامهم به بعد أن كانوا يلفظونه. بعثنا وراءه عيون الشرطة، فلم تحدد له مكانًا. رجل بألف وجه. يدخل حانة، ويخرج كائنًا آخر. ينام فى كوخه، ثم يصحو فى شارع آخر وعلى وجهه نفس الضحكة التى تكاد تقتلنا. ثرثراته خليط من كلمات النبواءات والمجانين.
– انفوه إذن بعيدًا.
– لو كان النفى يجدى (مولاى) كنا فعلنا دون أن نعود إليكم.
– خلصوا المملكة منه..
الإشارة بقتل إنسان لا تحتاج أكثر من ذلك؛ فلا يمكن أن يتورط الملك فى القول الصريح فى الزمن الذى يعج بالفضائح على كافة الشاشات، والوسائط، ويتحول الأتباع إلى أعداء فى لحظة.
– مولاى! لا نستطيع. كلماته أشرس من البارود. دخان ضحكته يفوق القنابل شديدة الانفجار. يكفى أن يقابله الواحد فى الشارع؛ لينظر فى وجهه، فتنتقل الضحكة فورًا كالعدوى على كافة الوجوه. كلماته تلف كالمشانق حول رقابنا نحن رجالك.. يقول الرجل: كل شىء بأوان.. القادم قادم.. الكراسى ستنقلب خشبًا للمشانق.. الذكرى ستدخل البيوت من جديد.
– هل تحتاجون إلى تفويض للخلاص من كل تهديد يقابلكم.. خزائن الدولة ملآى. ماذا تريدون؟!
كان الوزير يوشك أن يترنح من غضبة الملك بينما يعده ببذل دمه فى سبيل ذلك. ما إن نطق بتلك الكلمة حتى شكره الملك للمرة الأولى، والأخيرة، وأهداه عشر رصاصات بيد حُرَّاسه من خلال إشارة واحدة مقررًا فى نفسه أنه من لا يستطيع مواجهة رجل مجنون واحد لا يستحق الحياة..
وفى الجنازة المهيبة التى صُنعت؛ لتموه على الجريمة وقف الناس على جوانب الطرقات يحدقون بذهول حتى ظهر الرجل الضاحك رافعًا يده، مشيرًا إلى ساعة يده وسط الجنازة. ارتبك الحُرَّاس الذين يحيطون بعربة الدفن، فانتشر الضحك فى وجوه الرعية. صوَّب الحراس نظراتهم الجهنمية إلى وجوه الناس، فتحولت الضحكات إلى انكفاءات هستيرية، وخبط الكفوف بالكفوف بدلًا من أن انتشار الرعب.. وحين عاد الناس إلى بيوتهم سالمين هجروا التكنولوجيا التى أَسَرتهم زمنًا طويلًا، ونفضوا الحزن، ثم تفتحت نوافذ البهجة فى الوجوه التى خرجت دون اتفاق إلى الشوارع معًا. صارت كلمة الرجل الضاحك (الوقت سيحين ولو بعد حين) شعارًا مع الساعة التى كان الرجل من قبل يرفعها كلما انعطف إلى شارع جديد. فُتحت شبابيك الحريم التى كانت مغلقة بأمر الملك، والديانة لمئات الأعوام. فُتحت الأفواه الظامئة للعدل. كُسرت المتاريس الجهمة، وأصص الورد البلاستيكي، ومقابر الجنود المجهولين الذين لا يعرفهم أحد، ولم يقوموا بأى عمل بطولى سوى إشاعة الحزن وقتًا طويلًا.
البهجة جعلت الغربان تهرب من فوق الأشجار إلى قصر الملك، وعائلته؛ لتنقر شبابيكها؛ خوفًا من مطر الرصاص المنهمر. أما العصافير، واليمام، والحمام فكانوا يرفرفون فوق الرؤوس المرفوعة فى السماء بالبهجة، والأمل. هذا دون خوف من مطر الرصاص الذى كان يدخل الجسد، فيبصق الجسد توًا دم ينفرش على الأرض كأزهار متوهجة تتحدى القبح.. والبهجة أطارت العقال من فوق رأس الملك؛ ليرى رعيته عمق صلعته السوداء، وتكوين جمجمته المضحكة. تتسع أفواههم فجأة بضحكات كريهة كالرصاص، كالأبخرة السامة التى قصفت رداء الجهامة الذى ارتداه الملك على عظامه الغائرة عشرات السنوات. تشقق جسده اليابس كأن لغمًا تفجر داخله، ثم تطاير ساقطًا على الأرض فى كل اتجاه، فداسته الأقدام الراقصة هنا، وهناك، بينما أعلن الناس أن رجل الساعة الضاحك صار رمزًا للثورة.