دقوا الشماسي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسني حسن

(1)
لدقائق، بقيتُ أحاول النفاذ وكسر رقبة حصارهم المفروض على طريق الكورنيش، فلا أفلح. كانت تردني، في كل مرة، صيحاتهم العالية، المحذرة والمهددة، آمرة بالتراجع. صيحات مشبعة بالسلطة الاستثنائية الموهوبة لهم في بزاتهم “الميري” البيضاء. صيحات بدت لي، وبالرغم من غطرستها وخشونتها الظاهرة، دائخة مترنحة تحت ثقل الضجر والإحساس، المكبوح والمتواري، بالعبث واللا معقولية، بل وبالخوف. رفعت بصري لأجول بنظراتي، شرقاً وغرباً، وأنا أواجه صفحة البحر، الزرقاء القريبة الساكنة اللا مبالية، فلا تقع عيناي، ولأول مرة في حياتي، على أي شئ يمضي عبر نهر هذا الطريق، الطويل العريض، الذي لم يتوقف لحظة، ربما لآلاف السنين، عن الجريان والصخب، في هذا الاتجاه أو ذاك. كانت الأيام المسبية للحظر الكوروني، خلال عطلة عيد الفطر، قد أجهزت على آخر ما تبقى لدي من طاقة أتشبث بها للاحتمال، ولمواصلة العيش ضمن الحدود الدنيا للوجود فوق سطح ذلك الكوكب الأسير؛ أعني إما حبس نفسك، بعيداً عن كل من وما أحببته وجربته طوال عمرك، اختيارياً، أو حملك على ذلك، قسراً، بقوة قانون يتمنطق بعقلانية، غريبة شاذة، كما بهلع، وجودي شامل، لم نعهد له مثيلاً من قبل.
لا أعرف كيف نطت إلى مقدمة ذاكرتي، وأنا واقف على الضفة القبلية لكورنيش الإبراهيمية، صورة عبد الحليم حافظ، بالمايوه الملون القصير والتي شيرت الأزرق الضيق الكاشف عن هزاله وهشاشته، وهو يتقافز بين عشرات الشماسي الخشبية، بقماشها الغليظ المشدود وألوانها الزاهية الفاقعة، مغنياً للحب وللشباب، للمصايف وللبهجة والعذاب، ولعمرٍ غافلنا وانسرب، من بين أصابع الأيام والسنين، كما حبات الرمل التي سحبتها أمواج الزمن، بين مدها وجزرها، عند شاطئ بحر الإبراهيمية، الذي كان يوماً، الذي لن يصير أبداً.
أودِع فراغ الكورنيش المخيف، وأرتد إلى المدينة التي تبدأ بالاستيقاظ لتوها. تقودني قدماي، من دون تفكير مسبق، إلى شارعنا القديم تانيس الذي أتعرف عليه بالكاد. منذ نجح أصحاب بيت صباي وشبابي وسنوات زواجي الأولى في هدمه وإقامة برج، ضخم حديث، على أشلاء ذكرياتي فيه، ظللت أحاذر المرور من هناك، متدرعاً، بالإغفال والتجاهل ومحاولات التفلسف الرواقي الرخيصة، إزاء هجمات الحنين، العاطفية السيالة، وهشاشتها “السنتمنتالية” أنثوية المذاق. لكني أفشل اليوم، في صبح ذلك العيد الاستثنائي، الذي لم تتعال فيه تكبيرات الصلاة، ولا خرجت عند انبلاجة فجره جموع المصلين إلى الخلاء. هو الانهزام، إذاً، أمام الحنين وبقايا الصور وأشباح الساكنين بتلافيف الروح وأقبيتها التحتانية، ما يقود قدمي لهناك، ما يدفعني، كالمسرنم، لإلقاء نظرة على النوافذ الخشبية ، الموصدة والمهترئة بتراكم تيارات هواء البحر ورذاذه المشبع بالملح واليود، لتلك الشقة، الضيقة كالحُق، التي كانت تأوي إليها بوسي مع شقيقتها، العجوز المُعَاقة، لسنوات وسنوات.
قد لا يكون الحنين كله حباً، هو في الأغلب ليس كذلك، لكن الأمر المدهش أنه ما أن يمر الزمان، بقدمه، الساحقة المريعة، فوق رقاب أعمارنا، العارضة العابرة، حتى يستحيل كل شئ جربناه ذات يوم بعضاً من رقة، قطراً من عذوبة، وفيضاً من وجع شفيف مؤتلق، يستعصي على التفسير. لعلها تنهدات الحظر والعزل الكوروني العارض. أو ربما، وهو المرجح لدي أكثر، استفاقة الحزين، على أعتاب الستين، بهزلية كل يقين!

(2)
اعتادت بوسي على الاستيقاظ متأخرة. كانت تواصل السهر، أمام التليفزيون، الملون العتيق، من فوق السرير، “السفاري” الضيق، حتى قبيل الفجر. في ليالي الصيف الحارة، كان باستطاعة المارين أن يروها، عبر الشباك الواطئ بمستوى الشارع تقريباً، وقد تمددت بكامل جسدها فوق فراشها، واضعة زجاجة البيرة “ستيلا”، الخضراء “المشبرة” التي اشترتها بطريق عودتها الليلية من دكان نبيل البقال القبطي المواجه لمبنى الكنيسة الإنجيلية، على منضدة صغيرة مواجهة للسرير، مع صحن خزفي رخيص به قليل من حبات الزيتون الأسود والترمس بعصير الليمون، تتابع، غالباً، أحد الأفلام العربية القديمة. أمَا في أمسيات الشتاء، المطيرة الباردة، وبرغم أوبتها المبكرة، نسبياً، من جولاتها الاعتيادية بالجوار، فقد بقي بوسع أولئك المارة أن يتنصتوا، من دون جهد أو مشقة، على صوتها، الخشن الذكوري المبحوح كاسطوانة تالفة مشروخة، وهي لا تتوقف عن الحديث إلى من أعرف أنها شقيقتها، العجوز المُقعَدة، لوقت متأخر. لا حرارة الصيف ورطوبته الخانقة، ولا برودة الشتاء ونواته الممطرة، كانتا تقدران على حبس بوسي أو إجبارها على تغيير عاداتها وإيقاع حياتها اليومي المألوف. فمنذ بعد الظهيرة، ومع اقتراب موعد صلاة العصر، وعند نزولي من ترام الرمل راجعاً من العمل، ألفت أن ألمحها واقفة، أو ربما تتمشى بخطوات، صغيرة بطيئة مترددة ما بين التقدم والنكوص، بالقرب من ناصية شارع لاجيتيه أو على رصيف محطة الترام، في عباءتها، السوداء الملساء، من قماش الساتان، اللامع الحائل، المحبوكة، بقصدية تصرخ في وجهك، على جسمها، العجوز الضامر، و”قمطتها” المعقودة أعلى رأسها كتاج من حزن، حالك السواد، موغل في التخفي، وبصفحة وجهها، الشمطاء المتغضنة والتي تزيدها الأصباغ والمساحيق، الرخيصة نفاذة الروائح، قبحاً، بعينيها الذابلتين المتوسعتين بسن قلم الكحل الموخز كدبوس، بحاجبيها المنتوفين بقسوة، واللذين تعيد تزجيجهما بغشم سوقي يكسر القلب، وبأسنانها، الناتئة المسودة من آثار التدخين ومخلفات القطران المحترق، ثم بصوتها، الساخر البائس المستجدي، وبفرقعات لسانها، المتوالية المتصابية المغناج كطبل أجوف متشقق الجلد، وبالسيجارة كيلوباترا، التي لا تغيب عن أصابع يمناها إلا لتضعها بين شفتيها، وتروح تسحب منها أنفاساً، عميقة مشتاقة متلذذة، قبل أن تطالبك بسداد أي مبلغ لقاء ما خصتك به من عرض شبقي مثير.
ولمَا كنتُ رجلاً برجوازياً، محترماً وجباناً، فقد آليت على نفسي ألا أتورط، بأي شكل من الأشكال، في مغامرة الاستجابة لنداءاتها لي، والتوقف مرة، ولو إرضاءً لفضولي المعرفي وحسب، ومبادلتها بعض الكلمات، أو منحها بعض القروش، مختاراً أن أتصامى باستمرار، وأن أتعالى، فوق فضولي، مكتفياً بمحاولات تخيل شكل حياتها، قصتها، وأفكارها عن نفسها وعن ذلك العالم، وهي المحاولات التي تقدرون على تصور كم كانت شاحبة باهتة وهزيلة.
عند كهربائي الحي عم فتحي السجَان، ظننت أني قد بلغني عنها الخبر اليقين. كان فتحي عجوزاً طيباً وثرثاراً، يعشق صورته المنقرضة كشيخ حارة نموذجي في واحد من أفلام الأبيض والأسود، ويتيه بنفسه وهو يدل على سامعيه بحكاياته، السندبادية الخارقة الخرقاء، وبقصص النسوة اللاتي عشقنه وتدلهن به وبفحولته الغابرة. اشتم فتحي، بغريزته وبذكائه الفطري، أني ربما كنت مشغوفاً بسماع حكاية بوسي. غمز لي بطرف عينه، وهو يقلب السكر والنعناع الأخضر بكوب الشاي الثقيل ويمده لي، ثم قال:
– آه لو كنت عرفتها في شبابها يا أستاذ!
ولأني كنت أتحسب من مبالغات فتحي عادة، فقد عبرت، بخفة، فوق ملاحظته التي قصد بها استثارة شبقي أكثر منه شغفي.
– لا تخدعنك صورتها الآن، لقد كانت، قبل ثلاثين سنة، نجمة علب الليل والحانات على الكورنيش، من الشاطبي لسيدي جابر، وربما لأبعد بكثير، وحلم شباب وشنبات كبيرة، من بحري لمحرم بك للحضرة، وحتى لسيدي بشر.
كنتُ، بطبيعة الحال، قد قرأت بعض الكتب التي تناولت بالوصف شكل الحياة، خاصة في جوانبها المثيرة والشبقية تلك، لإسكندرية منتصف القرن العشرين، وحتى ما قبل منتصفه، أو ما بعده، بعقدين من الزمان، من كفافيس إلى لورانس داريل، ومن نجيب محفوظ إلى إدوار الخراط، ومن محمد حافظ رجب إلى إبراهيم عبد المجيد، وغيرهم.
أتفهم لماذا تلوح تلك العقود من تاريخ المدينة، بالذات، لنا اليوم على هذا القدر من الجاذبية والسحر والألق. وأعرف، يقيناً، أنها ما كانت لأبنائها، في زمنهم البعيد ذاك، مغمورة بكل ذلك البهاء وتلك الروعة المتخيلة. هو الحنين مرة أخرى، ودائماً. لكنه ليس الحنين إلى ما قد عشناه يوماً ونعيد تشكيله عبر التذكر والاستدعاء الزمني، بل الحنين إلى ما لم نعشه، أبداً، ونطمح إلى اختلاقه وتأبيده عبر المخيلة، فهل هناك ما هو أشد خطراً، وأفدح شجناً، على الروح، من حنين يتغذى على الأوهام والأشواق والتخيلات؟
لمحت بوسي، في إحدى الأمسيات، الشتوية الكئيبة، تمضي راجعة لشقتها ببدروم العمارة القريبة، أبكر من المعتاد كثيراً، فقدرت أن ثمة شيئاً غير اعتيادي يحدث. كنت قد اشتريت الخبز “الفينو” لساندوتشات المدرسة للطفلين، ورحت أحلم بالهرب من كل شئ أعيشه؛ البيت، العمل، الكتابة التي لا تطاوعني، إدمان الفشل الوجودي، والأمل في تجاوز أي شئ أو إدراك أي شئ، أمَا هي فقد لاحت لعيني منهزمة ومحطمة كلياً. غامرت بالاقتراب منها، متخطياً ذاتي، وإلقاء السلام عليها، فلم ترد. لأيام وأسابيع تالية، ما عدت ألمحها عند محطة الترام أو قمة شارع لاجيتيه، ما دعاني لسؤال فتحي عنها:
– ألم تعرف بعد؟ الله يرحمها.
نطق كلماته ببساطة، وببعض الأسى، وعلى طريقته الاستعراضية المعهودة، في آن. بلعتُ غصة حاقت بحلقي، وسألت:
– كانت مريضة؟
– مرضت بعدما توفيت أختها المعوقة التي كانت تعيش معها. يقولون إنها بكت عليها، ولطمت الخدود وشقت الجيوب، وحتى راحت تضربها، وهي ممددة على السرير أمامها فاقدة للحياة، وتصرخ فيها مولولة لمن تتركيني الآن يا بنت الكلب؟ الظاهر، والله أعلم، أنها كانت تعيش من أجلها من غير أن تعرف!
ولأول مرة، أسمع فتحي يقول شيئاً يلامس أفكاره ومشاعره الإنسانية الحقيقية، متخففاً، ولو لثوانٍ معدودات، من تباهيه ونزوعه الاستعراضي الأصيل. ويبدو أني قد أثرت، لسبب أو لآخر، شفقته علي، فتابع يعزيني:
– سبحان من له الدوام يا أستاذ.

(3)
لم يكن بمقدور الكثيرين أن يقابلوه أو أن يعرفوه شخصياً. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان شخصية جماهيرية ذات حضور، مهيمن محلق غامض ومثير لاستفهامات عديدة، بطول الإسكندرية وعرضها. إنه ذاك الشبح الأخضر، الذي عهدناه يجوب ليل المدينة، خاصة عبر ذلك المربع السكني الممتد من الشاطبي وحتى سبورتنج، والذي يقع نادي الاتحاد السكندري في بؤرته. شبح بقامة متوسطة، وجسد ضامر نحيل، في ملابس متهدلة رخيصة، وكاسكيت أخضر اللون، بطبيعة الحال، وبجردل طلاء زيتي أخضر، وفرشاة لا تجف أبداً من بقايا اللون الفاتن الذي لا يوفر نفسه لكتابة شعاراته، الرافضة الغاضبة، على كل ما يصادفه بطريقه من حوائط وجدران، من جدران طريق الترام ومحطاته عند كامب شيزار والجامعة والشاطبي، إلى أسوار كلية سان مارك ومدرسة سانت هيلانة ومقابر الأقباط بالشبان المسلمين ونادي سبورتنج، الصفوي المستنيم لأطلال أحلام وأمجاد طبقية غابرة أخنى عليها الدهر، ليجئ شبح جمال الدولي ليبول، فوق سوره العالي، من جردل طلائه، الشعبي الأخضر، وكأنما ليؤكد، وعلى طريقته الخاصة، أن البقاء هو لعشب الأرض، التافه الذي تدهسه أقدام العابرين، وليس للأشجار، الباسقة العالية، ولا للنخيل الملوكي الأملس صقيل الجذوع .
حيرتني، وأثارتني، دوماً، شعارات ذلك “الدولي”، كما لقبه العجيب ذاك. تركزت الشعارات، في بداياتها، حول تعبيره عن عشقه، الأسطوري الجارف، لناديه، الشعبي العريق، الاتحاد السكندري، وبالمقابل عن مقته، المتعصب الحاقد، لأندية العاصمة الكبيرة، وخاصة الأهلي الذي اختصه الدولي بقسط وافر من شتائمه وبذاءاته من دون تحفظ ولا حرج. لتتدحرج تلك الشعارات، شيئاَ فشيئاً، وببطء، أو ربما بحسابات ذاتية وأمنية دقيقة ومعقدة، باتجاه البوح بما يعتمل في الصدور الصامتة من رفض للبطالة والفقر ومظاهر الجوع، وكذا من اعتراضات معهودة على سياسات التطبيع الحكومية، المتعثرة الخجول، مع العدو الإسرائيلي “السابق”!
بالاستعلام عن شخصية ومرجعية هذا المشجع الكروي، والناقد المجتمعي ذي الطبيعة الرمزية الواضحة، عرفت أنه قد تخرج في كلية آداب الإسكندرية قسم التاريخ منذ ثمانينيات القرن المنصرم، وأنه لم يجد له عملاً يعتاش منه، وأنه وهب حياته لتشجيع فريقه وناديه، العريق المضطَهد؛ نادي “النتحاد” كما ينطقها مشجعوه وأنصاره، أو نادي “السيبرتو” كما يسخر الأهلاوية والزملكاوية من أولئك الأنصار، السكندريين المجانين، على شاكلة الدولي وريعو وغيرهما.
كنا قد ولجنا العشرية المباركية الثانية. وكانت الحياة تمضي بنا، ولا تمضي. واعتادت أعيننا على رؤية صور الرؤساء والقادة والمديرين الشيوخ، كما أدمنت آذاننا سماع أصواتهم، الواطئة العجوز. وعشنا لا نتخيل أية إمكانية لمواصلة العيش بعيداً عن استقرار، هش غير مختبر، وأمان، راكد متوهم، يمنحه لنا خيالهم الكسيح، متصلب الشرايين، متيبس الأطراف. وكنت أومن أن أفدح، وأنكى، ما جنته علينا، تلك العقلية والمخيلة المباركية، هو إيقاع البلاد والعباد، على هذا النحو القدري “السيزيفي”، في شباك شيخوخة مستدامة تطمح في أن تغدو عقيدة وديناً، وتتحالف، خلال صراعها التاريخي مع عقلية ومخيلة ماضوية وسلفية أخرى، ضد كل تحديث أو تشبيب أو استنهاض لأرواح الأجيال الجديدة وأحلامها في العيش بكرامة وعدالة وحرية. أثناء تلك العشرية، المشار إليها، لم تكن ظاهرة الألتراس قد تبلورت بعد، ولا كان شبابها قد اهتدوا إلى فكرة تنظيم أنفسهم في حزب، مستقلٍ ونوعي ومغلق عليهم، بالشوارع ومدرجات ملاعب الكرة وميادين المنافسات والبطولات الرياضية المختلفة. لكن المتابع، المدقق في الأمر، لم يكن ليخفى عليه ما يعتمل بداخل النفوس، وفيما تحت قشرة السطح، الهادئة الثابتة، من قلق وغليان، من شغف وتوق، ومن غضب وثورة، وهو ما أثبتته حوادث ودراما العشرية المباركية الثالثة، بكل جلائها الحزين والملتبس.
ولأن الأمور لم تكن قد نضجت بعد لتفرز لنا ما هو أكبر من تظاهرات مشجعي “السيبرتو” أمام قدامى لاعبي جيل السبعينيات الذهبي، في جلستهم اليومية المعتادة حول الشيشة ببورصة المحروسة الكبرى عند محطة ترام الإبراهيمية، أو ما هو أعمق مغزى من شبح الدولي الأخضر وشعاراته الرافضة المحتجة، أو من عنف وحماقات ريعو، بمدرجات الدرجة الثالثة باستاد الإسكندرية وبصالة الباسكيت بول بمقر النادي في الشاطبي، فقد غدا الدولي، ولبضع سنوات، نجماً وعلامة، وتعبيراً، مهما بدا ناقصاً أو شائهاً أو منحرفاً، عن حمل وتخصيب، يتشكل برحم الأيام، حالماً باستعادة الشباب لزمام المبادرة، وباستنهاض الحيوية وتحطيم تابوهات وأوثان الحكماء والعواجيز.
في مباراة الكأس النهائية لكرة السلة، والمقامة بالصالة المغطاة باستاد الإسكندرية، وفيما يتهيأ الجميع لسماع صافرة الحكم المؤذنة بإسدال الستار على البطولة، ومنح كأسها لفريق الأهلي، الذي اكتسح الاتحاد وجيل وردة وأبي الخير الأسطوري، في لعبة السكندريين المفضلة، وعلى أرض مدينتهم الحاقدة على القاهريين، وبينما راح المعلق الرياضي للتليفزيون الحكومي يغدق بالمديح والثناء على الأهلي ولاعبيه، متذكراً، بين الحين والآخر، ضرورة مواساة الاتحاد ومشجعيه بكلمات، هزيلة شحيحة، تثير من حفيظتهم بأكثر مما تطبب جراحهم، إذ بجمال الدولي يقفز من بين المدرجات، عارياً كما ولدته أمه، ويجري باتجاه الطاولة، المصفوف فوقها الكؤوس والميداليات والدروع التذكارية، فيختطف الكأس، الثمينة العزيزة، ويضمها إلى صدره بقوة، ويروح يطوف بها أركان الصالة وجنباتها، قاطعاً الملعب من أقصاه إلى أقصاه، وهو يبكي بحرقة اكتوى بها كل من رآه، سواء بالملعب أو عبر الشاشات. لحظات من الذهول، الواجم المنتشي والمتألم الملتذ، شدهت أبصار الجميع وحبست أنفاسهم، فيتوقف اللاعبون عن اللعب، ويتسمر رجال الأمن في أماكنهم، قبل أن ينتبهوا إلى ضرورة أن يفيقوا، ليطاردوا ذلك المجنون العاري، وليعيدوا الكأس إلى مكانها، ثم ليسحبوه خارجاً ليلقى مصيره المعلوم، وسط هتافات أصدقائه وأقرانه “السيبرتو” باسمه، وتعالي نداءاتهم، بل وتهديداتهم، لرجال الأمن بتركه يصعد إلى المدرجات بعد أن قام بعضهم للقفز، بدورهم، لداخل الملعب، ولف الدولي بعلم طويل عريض أخضر اللون، ما دفع الضابط الكبير إلى الاستجابة، وتركه لهم، والانصراف لمهمة إخلاء أرض الملعب منهم، واستئناف اللعب حتى يتوج الأهلي باللقب، ويحمل قائد فريقه الكأس التي أبكى فراقها الدولي ورفاقه!
في الصباح التالي، سمعتُ الإسكندرية كلها تتحدث عن الواقعة، التي راح الناس يعيدون سردها، كل بطريقته ومن منظوره الشخصي طبعاً، في ترام الرمل وعند أكشاك الكتب والصحف وحتى بالأسواق الشعبية. غير أن ما لفتني أكثر، هي مسحة التعاطف ورنة الإشفاق، التي كست نبرات جميع المتكلمين عن الحادثة، باختلاف مواقفهم الأخلاقية وتقييماتهم النقدية أو الرياضية منها، فهل كانوا، في حقيقة الأمر، إنما يتعاطفون مع أحلامهم المنهارة، ويشفقون على شغفهم المسفوح على أرضية ميدان الحقائق والوقائع الخشنة؟
في العمل، تعالت ضحكة رئيسي، وغمز لنا بعينه، فور خروج زميلتنا، الشابة حديثة الزواج، من مكتبه، قائلاً:
– لم تنم “نسوان” البلد كلها الليلة الفائتة، وسنة سوداء على دماغ جميع رجال مصر بسبب الدولي.
تظاهرت بعدم فهم ما يلمح إليه الرئيس، أمَا هو فلم يهتم بتظاهري الصبياني ذاك، وواصل:
– هل رأيتم “طرفه”؟ حصان أصيل ابن الكلب!
أغتصب ابتسامة لأرسمها على شفتي، مفكراً بشغفي الخاص، أنا أيضاً، ومتسائلاً عن كنهه وهويته، أو فلأقل عن يقين الخيبة وأوهام القيام.

(4)
أمَا هو فما كان شبحاً ليلياً، بل أغنية نهارية، بهيجة راقصة، وإن لم تغدُ مفهمومة بعد. يراه الجميع ويعرفونه شخصياً. وعبر شوارع الأحياء القديمة، الممتدة من الإبراهيمية وحتى محطة الرمل، كنا نقابله، نسلم عليه، ونقف، مستغربين ومستمتعين ومتأملين. أحياناً، نلمحه طائراً من فوق دراجته الهوائية، السوداء وارد الصين، يمضي بها، بكل سرعة، يتسلل من بين أسراب السيارات، المزدحمة العجلى، وهو يرن جرس الدراجة، المزعج الصخاب، فيما يصدح جهاز الكاسيت “الباناسونيك” الياباني، ودوماً، بأغاني أفلام “بوليود” الهندية الشهيرة، ويروح هو يغني معها، رافعاً عقيرته بأقصى ما لديه من طاقة، مقلصاً عضلات وجهه، الضامر بعظام الجوع وسوء التغذية الباديين، ومغامراً برفع يديه عن “جَدون” الدراجة ليقلد بهما حركات الراقصين الهنود المعروفة، متمايلاً بجسمه ذات اليمين وذات اليسار. وأحياناً أخرى، كان يفلح في أخذنا من اندفاعنا العملي السادر في وهميته الواقعية، ومن استعجالنا وجديتنا وحرصنا، الملتزم التافه، لنتسمر أمامه، مشدوهين بموهبته العجيبة في تقليد أصوات المغنين والمغنيات “البوليوديين والبوليوديات” وطريقة نطقهم للغة لا يعرف منها حرفاً واحداً، بميدان محطة الرمل، أو أمام بوابة الدخول لسينما أوديون بكامب شيزار، أو على كورنيش الميناء الشرقي بمواجهة فندق سيسل، في حلقة بشرية صغيرة تشبه دوامة مائية عارضة، لا تني تتوسع حتى تتلاشى ، ونحن نتابع إيقاعات قدميه الراقصتين، وتثنيات جسده الأسمر النحيل، وتشنجات عضلات وجهه المنتفخة والمنبسطة تباعاً، وحركات يده اليمنى الحرة باتجاه الأعلي أو تحت الخصر، فيما اليد اليسرى تلتف، بحنان وحزم وحرص، من حول الكاسيت المحمول على الكتف، حتى لا يسقط فتسقط معه الأحلام والنشوة!
أجل، لعلي لم أصادف، في حياتي كلها، من ينغمس ويحيا فيما يفعل كما يفعل أحمد سنجام، اللهم إلا الأطفال. وكثيراً ما ضبطت نفسي منشدهاً وأنا أراقب حفيدتي، ذات الأعوام الأربعة، وهي تمسك بجراب موبايل، قديم فارغ، تضعه عند أذنها، وتأخذ في السير بطول صالة البيت، منغمسة، وبكل الجدية والرصانة، في مهاتفة أصدقائها والصديقات، بل وأزواجها وخطابها وأهاليهم، مستنكرة قيام أمها المتكرر، بداعي خوفها عليها من التردي في وهدة آبار الوهم وأقبية التخيلات المفرطة، بكسر حالة الإيهام المبهرة تلك، وإفسادها عليها، أو السخرية منها. نعم، لطالما كان أحمد سنجام، وحفيدتي الطفلة كذلك، يعاينان واقعاً، وإن بدا لنا سحرياً وهمياً وغير واقعي، فهو أكثر صدقية وحقيقية مما نعيشه نحن من واقع، الأمر الذي أبقى أغبطهما عليه.
لكن، هل الأمر، حقاً، بمثل هذه البساطة والفتنة والبراءة؟ على الأقل، هل يبقى على هذا النحو إلى ما لا نهاية بالنسبة لأصحابه؟
بالقطع لا، فالأطفال يكبرون، والمغرمون يهرمون، والغاوون يبتلعهم، يوماً ما، روحاً وجسداً، أملاً ورؤية، شدقا الزمان، وتفترسهم عقلانية الأيام، ليكبروا بين الكبار، ولينضجوا ضمن الناضجين!
بينما كنت أجلس بدكان فتحي الكهربائي، ذات مساء بعيد، رأيته يدخل علينا، حاملاً، كعادته، الكاسيت الشهير. شرع يدير في وجهينا نظرات، خجول مترددة، كمن يخشى من أن وجوده بالمكان زائد عن حاجة أصحابه، أو أن حضوره في هذا العالم يظل مطالَباً بتقديم مبررات ومسوغات لا يستطيع توفيرها. صدمني هذا الإدراك، المأساوي الحزين، بشدة، ربما لأني، من بين قلة حمقاء في ذلك العالم، لا أزال أومن بأحقية الطفولة والشغف في مساءلة الحياة والوجود، لا في جدارة الحياة والوجود باستجوابهما أو استنطاقهما أو مطالبتهما بتقديم مسوغات ومبررات.
رفع فتحي عينه نحوه، وسأل بقليل من الحماسة والاهتمام:
– خير يا أحمد؟
– أظنه “الهيد” يا عم فتحي. الصوت واطئ ومتحشرج، وحركة الشريط بطيئة.
– اتركه لي يومين يا أحمد.
بان الانزعاج على وجه الشاب؛ كان شاباً وقتها، وهم بالاعتراض، قبل أن يتلعثم بالكلام:
– يومان يا عم فتحي؟ كثير!
ابتسم لي فتحي من جانب عينه، ففهمت أنه يتلذذ بتعذيب محدثه الذي لن يطيق التوقف عن الرقص والغناء ليومين كاملين. أوغل فتحي في ساديته وتلاعبه به، مقترحاً:
– لماذا لا تشتري جهازاً جديداً يا أحمد؟ ألم يعطك طارق علام جنيهاً ذهبياً في رمضان الماضي؟
كان الضابط السابق بالبوليس المصري، ومقدم برامج المسابقات والهبات والبلاهات الرمضاني بالتليفزيون، قد وهب أحمد سنجام جنيهاً من ذهب، بالرغم من فشل أحمد في الإجابة عن سؤال، عويص لوذعي، من عينة كم حاصل جمع خمسة زائد خمسة وكم حاصل طرحهما؟
– أخذته مني خطيبتي يا عم فتحي. أصرت على أن تحتفظ به معها، لزواجنا، بدعوى أني سأضيعه بخيبتي!
– معها حق والله يا أحمد.
عاجله فتحي بالرد، من دون رحمة ولا حذر. لكن الأغرب كان في اتفاق الشاب معه فيما قاله بحقه.
– أنا أيضاً قلت ذلك، وسلمته لها فوراً. كانت قد هددتني، قبل شهر، بأنها ستفسخ خطوبتنا لأني فاشل ولا أفعل شيئاً في حياتي غير التسكع والرقص والغناء، كالغوازي في الموالد.
– ولكنك تشتغل في سينما أوديون، حسب علمي، أم تراك تركت الشغل؟
– لا، لم أتركه، فأنا أحبه لأنه يتيح لي فرصة مشاهدة الأفلام الهندية، المعروضة هناك، مراراً وتكراراً.
ابتسم أحمد واحدة من ابتساماته الطفولية، البلهاء والخبيثة، وتابع الاعتراف:
– صحيح أني أكره عملي في كنس وتنظيف قاعة العرض والمكاتب، كل يوم، لكني، أتفرج على جميع الأفلام، مجاناً، كل يوم.
لسنوات، طويلة عديدة، ارتحلت بقارب حياتي بعيداً عن الإسكندرية، وشوارعها وناسها وبحرها، صوب بلاد أخرى، وشوارع أخرى، وناس وبحار ومحيطات. وحين رجع بي مد الشيخوخة، والمرض والحنين، إليها ثانية، كانت أشياء كثيرة قد تغيرت. وفي ظهيرة صيفية حارة، وبينما أنا نازل من مكتبي، بميدان سعد زغلول، قاصداً ركوب الترام، من محطة الرمل، لأرجع للمنزل، إذ بي أراه مجدداً؛ الشاب، الراقص المغني، الذي ما عاد شاباً، لكنه، ويا للسعادة والفرحة، يبقى راقصاً ومغنياً. ثمة أشياء قد تغيرت حقاً، وتهدلت ، بطبيعة الحال؛ فالشعر الأسود الفاحم، كما شعر الهنود، قد أمسى شائباً، والقوام الأسمر، المشدود الرشيق، قد تهدل، قليلاً، “وتكرش” من عند البطن، والعينان الحولاوان قد اختفتا وراء نظارة طبية سميكة، أمَا الكاسيت “الباناسونيك” فما عاد له وجود، وتم تحديثه واستبداله بمشغل “إم ب3” لا يحتاج إلى صنعة فتحي، الذي وُري جثمانه، رفقة حكايته الخرافية عن نفسه، رفقة سخرياته وطمعه وشبقه وطيبته المتخابثة، بمقابر النسيان والعدم.
وحدهما الغناء والرقص، شغف الجمال والحب والحياة والارتعاش والانخطاف والحلول والتجلي، قد عادا يواصلان، أمام أعين الباقين أحياء، عروضهما الخالدة.
وقفت أتابع العرض، السحري المبهر، متذكراً العندليب الأسمرفي استعراض قاضي البلاج وأغنية دقوا الشماسي، بائعي الفريسكا على الشاطئ، بصناديقهم، الزجاجية الخشبية، الصغيرة، ومصوري الفوتوغرافيا الجائلين، بقمصانهم البيضاء الواسعة، وسراويلهم البيضاء القصيرة، وقبعاتهم القش الرخيصة، وكاميراتهم، السوداء العتيقة، المعلقة في رقابهم، يحاولون بها حبس سيال الزمن، تثبيت مجراه للحظة قد تساوي، بحسبة غير منكورة دائماً، أبدية كاملة.
مددت يدي إلى جيبي، وأخرجت ورقة نقدية من فئة المائة جنيه. طويتها في باطن كفي، بعناية، حتى لا تبين، وسربتها بصمت إلى كفه، فيما ظل هو سادراً منتشياً برقصته والغناء، قبل أن يهبني نظرة شكر ممتنة من عينين حولاوين تختفيان تحت نظارة طبية سميكة.
مضيت، في طريقي، راضياً خلياً ومستكفياً، وأنا أفكر أنه سيبقى، دوماً، ثمة غدٍ لكل غد!

 

مقالات من نفس القسم