سيد الوكيل
تنعكس رغبة الكاتبات فى استعادة الجسد وقيمته وخبرته الحيوية ـ كأحد سمات الكتابة النسوية ـ من خلال لغة محتفية بالإيماءات والتعبيرات الحسية التى تذكرنا بأساليب التواصل الإنسانى قبل تمكن الإنسان من اللغة ، وحيث تعلم الإنسان ـ من الطبيعة ـ أن يعبر عن رغباته بتعبيرات حسية مباشرة كالرقص للتعبير عن الفرح أو الصراخ للتعبير عن الغضب أو الولولة للتعبير عن الحزن ، ويتجسد هذا فى الكتابة الأدبية فى صور طقوسية وإيقاعية وتكرارية تكسب اللغة طاقة غنائية ، وهكذا يمكن أن يظهر الجسد فى الكتابة الأدبية ليس موضوعاً فحسب ، ولكن كنافذة تطل على الذات وتميزعلاقة المرأة بالعالم الخارجى بوصفه مجموعة من الخبرات الحية ، تعكسها اللغة الإبداعية . إن لغة الكتابة الأدبية تظل هدف النساء الأهم فى سبيل التأسيس لخطاب أدبى نسوى ، فإذا كانت الكتابة الأدبية بمثابة معادل لذات المرأة فإن اللغة بوصفها مادة الكتابة هى ـ فى حد ذاتها ـ محملة بإرث ذكورى عبر محمولات دلالية وبلاغية سكنتها طويلاً،بماً يعطل قدرتهن(الكاتبات ) على إطلاق خطاب نسوى متحرر من ذلك الإرث الذكورى ، وقادر على التعبير عنهن . إن ضيق النساء باللغة يظهر فى أعمالهن ، فالشاعرة ( نجمة إدريس ) تبدى ضيقاً بسطوة اللغة وأقنعتها الجوفاء ، فتقول فى قصيدة بعنوان ( ماذا لو ..؟؟) من ديوان مجرة الماء : ماذا لو… نخلع هذى الأوجه ..والأسماء لو ننضو عنا الأثواب وقعقعة الأحرف ريش اللغة الجوفاء؟؛ وتفسر نوال السعداوى هذا الموقف النسوى من اللغة ، حيث ترى أن مفردات اللغة التى تربت عليها النساء ، لاتؤهلهن لشيئ سوى لللانسحاق الكامل تحت سلطة الرجل ، فمعان مثل : ” التفانى فى الآخرين ـ إنكار الذات ـ التضحية بالذات .. إلخ .. إلخ ، كلمات تندرج تحت بند الموت أو إفناء الذات ، لكن الإبداع أو الكتابة هى عكس ذلك تماماً ، إنها إحياء الذات وليس فناءها ، إنها تحقيق الذات وليس إنكارها ” وإذا كانت درجة قبول المجتمع للمرأة المبدعة تمثل عائقاً فى سبيل تحققها، فإنه يمكن اعتبار هذا العائق الخارجى متفاوتاً فى نسب تأثيره ليس فقط بين مجتمع وآخر، بل ـ أيضاً ـ بين كاتبة وأخرى، في حين يمكن الإشارة إلي مجموعة من التحديات التى تعيش داخل المعنى الأدبى ذاته سواء على مستوى المضمون أو على مستوى الشكل، إذ تبرز اللغة كأحد أهم هذه التحديات التى توليها النساء المبدعات عناية خاصة، كما أن الصياغات التقليدية المحددة لنوع وجنس الأعمال الأدبية، بدت للنسويات تمثيلاً للوعى الجنوسى الذى يعمل على ترتيب القيم ترتيباً هيراركياً / ذكورياً،وفى هذا المعنى تقول الكاتبة سلوى بكر فى شهادة لها عن كتابات النساء : ” يعانى الكاتب المبدع من المحظورات الثلاثة : الدين والجنس والسياسة ، أما الكاتبة المبدعة ، فيضاف إلى قمعها قمع اللغة ” . ويشترط عبد الله الغذامى أن تكون لغة المرأة المبدعة ممثلة لوعيها بذاتها ووجودها ، رافضاً أن تكتب النساء بنفس لغة الرجال . يقول : (هناك نساء كثيرات كتبن بقلم الرجل ولغته وبعقليته، وكن ضيفات أنيقات على صالون اللغة. إنهن نساء استرجلن، وبذلك كان دورهن دوراً عكسياً، إذ عزز قيم الفحولة في اللغة… من هنا تصبح كتابة المرأة- اليوم- ليست مجرد عمل فردي من حيث التأليف، أو من حيث النوع، انها بالضرورة صوت جماعي فالمؤلفة هنا، وكذلك اللغة هما وجودان ثقافيان فيهما تظهر المرأة، بوصفها جنساً بشرياً، ويظهر النص بوصفه جنساً لغوياً) وهكذا ، فاللغة ـ بوصفها نظاماً ـ تنال أول اهتمامات النقد النسوى ، كما تصبح هاجساً مؤرقاً لدى الكاتبات المبدعات ، ومدخلاً أولياً لقضيتهن ، وذلك بالبحث عن لغة بديلة تعطى النساء مساحة أكبر من التعبير عن أنفسهن ، إنها لغة تقترب أو تبتعد بحذر من محددات ثقافية مسكوت عنها فيما تعيش فى الحياة اليومية وكأن وجودها جزء من طبيعة الحياة وناموس من نواميس الكون ، وهكذا تعمد الكاتبات إلى لغة الحياة اليومية بغية خدشها ، وفضح ما تتضمنه من معانى القمع والتهميش . ويمكن أيجاز جهود النقد النسوى فى اتجاه تأنيث اللغة على ا لنحو التالى : · اعتبار تنقية اللغة من سماتها الذكورية شرطاً لتمكين المراءة من تحولها من موضوع لغوى إلى ذات فاعلة تعرف كيف تفصح عن نفسها . · التأكيد على أن أدبية اللغة ليست سمات ثابتة فى القول اللغوى نفسه ، بل سمات مرتبطة بوظائف تسود فيها الوظيفة الجمالية ذات التوجيه الذاتى ويترتب على ذلك ، التمييز بين اللغة الأدبية واللغة المعيارية ، إذ أن السمة الرئيسية التى تميز اللغة الشعرية ـ مثلا ـ عن اللغة المعيارية هى سماتها التحريفية ، أى انحرافها عن قانون اللغة المعيارية وخرقها له وحيث المقصود باللغة المعيارية هى اللغة المستسلمة لنسق أو نظام نحوى أو صرفى أو صوتى، ويقترح الكلام (لغة الحياة اليومية ) بديلاً عن اللغة علي نحو ما يعرفها دي سوسير. · التأسيس لبلاغة نسوية ، أى بلاغة تعكس المزاج النسائى باعتبار أن عين المرأة ذات حساسية خاصة فى التقاط ما يهم بنات جنسها ، وتقوم مهمة النقد النسوى بالكشف عن مستويات هذه البلاغة ، وتعين درجات تمايزها لدى الكاتبات عن الكاتبين الرجال . وقد تنزع اللغة بكتابات النساء إلى مستويات من التعبير الهامشى الذى لاينظر إليه بتقدير كبير فى الدراسات الأدبية مثل اليوميات والمذكرات الشخصية وأدب الاعتراف والصور القلمية والخاطرة وغير ذلك من أشكال التعبير السردى التى تقارب البوح والفضفضة ، وكأنها تنهدات تبيح المحظوروالمقموع فى الذات من ناحية ، ومن الأخرى تفضح المسكوت عنه فى فى الممارسات المجتمعية التى تحمل وزرها المرأة . وتعد قصص (مى التلمسانى) نموذجاً بازغاً لكتابة نسوية تجترئ على اجتراح المسكوت عنه وهتك قشرة التقاليد الصلبة على نحو يحدث نوعاً من الصدمة الجمالية، التى تدعونا لأعادة النظر والتفكير فيها ومراجعتها حتى تنال منها، فمجموعاتها القصصية (خيانات ذهنية ) تتناول مجتمعات: الصالونات والبيوتات الراقية والنوادى الخاصة والمطاعم الأنيقة، التى تفوح منها روائح العطور الباريسية معجونة بروائح الخيانات، إنها مجتمعات طالما حملت التقاليد بل وأنتجتها وحافظت عليها، فالطبقة الاجتماعية العليا ـ عادة ـ هى التى تخلق التقاليد التى تخدم مصالحها وعلاقاتها وتحدد ما يعرف ـ فى النقد الماركسى ـ بالبنية الفوقية، أى مجموعة النظم الثقافية التى تحمى علاقات إنتاج الخطاب الثقافى لهذا المجتمع. وعندما تعمد كاتبة، من بنات هذه الطبقة للكتابة عنها بقصد تعريتها من قشرتها الصلبة، ليظهر المسكوت عنه، ويتجلى الإنسان فى صورته الطبيعية، من ثم تنحدر العلاقات التى تتشبث بالأنماط الرومانسية ـ التى أنتجتها هذه الطبقة ـ إلى أشكال أيروسية فاضحة، إن فكرة الخيانة التى حرصت مى التلمسانى على تأكيدها ليست مجرد حالة شهوانية غير مبررة، بل هى خيانة ذهنية لأفكار وتقاليد هذه الطبقة أو بمعنى آخر هى خيانة للغتها. فالكاتب لايمكنه فضح المسكوت عنه داخل مجتمع ما إذا ظل محافظاً على أقانيمه اللغوية المعتمدة، فاللغة هى جسد الثقافة لأى مجتمع وحاملة قيمه، ولهذا كان من الضرورى أن تؤكد مى التلمسانى خيانتها الذهنية للتقاليد عبر خيانات أخرى للغة نفسها فى نفس الوقت الذى تعمق فيه الحس الأيروسى بدافع خدش نمطيات الوعى. ومن ثم يظهر الجسد فى قصصها بعداً شهوياً . لكن الجسد الشهوى، ليس الموضوع الوحيد الذى يعبر عن صورة الجسد الأنثوى. فقصة (المكتنزة البيضاء) لصضفاء عبد المنعم ، تتخذ من بكارة الجسد وطزاجته موضوعاً لها، ليصل الافتتان والتشبب إلى درجة من الهوس أو الشبق الجمالى الذى تتفتح معه الحواس، وهو تفتح مرادف للطلوع والانولاد الأول، وبكارة الأشياء ” البنات الصغيرات لهن روائح خاصة، لا هى بالزهور ولا بالعطر، روائح اللبن الممزوج برائحة برازهن، وعرق الجلد، وبودرة التلك، رائحة تجعلك تمد أنفك طويلاً بين ثنيات رقابهن، وتشم طويلاً، فتصدر عنك… آه.. طويلة وتظل عيناك مسبلتين تردد.. الله.. الله.. عسل وسكر وتشم وتشم وتشم “.( فى نص كهذا، تتدفق اللغة من أقصى درجات الحسية من غير إشارات جنسية أو فاضحة ، لكنها تعكس خبرة أخرى من خبرات النساء اللاتى يسعين إلى التعبير عنها فى كتاباتهن ، إنها خبرة الأمومة التى تتفرد بها المرأة وتتميز بها عن خبرات الرجال ، وهى فى النهاية خبرة جسدية .