يضمُّ الدِّيوان الذي بين أيدينا عشرة نصوصٍ، غير مُعَنونة، لكنَّها مرقَّمة بأرقام لاتينيَّةٍ، وهي نصوصٌ مقطعيَّةٌ تحمل مقاطعُها الصَّغيرة؛ أيضًا؛ أرقامًا لاتينيَّة، وكأنَّ هذا الغموض؛ الذي هو مفتاحُ القصائد؛ يعني انتماءَ هذه القصائد للتَّجربة الإنسانيَّة العالميَّة ككلٍّ؛ حيث يأتي ترقيمُها من لغةٍ تاريخيَّة عالميَّة، أما خصوصيَّتها فتأتي من لغتِها ومن تجربةِ الشَّاعر الخاصَّة؛ التي هيَ تجربةٌ إنسانيَّةٌ في المقامِ الأوَّلِ، وهذا في حدِّ ذاته تجريبٌ يمارسه الشَّاعر؛ مُقترحًا إياه ومراهنًا به على وحدة التَّجربة الإنسانيَّة، لتُصبحَ (العائلة)- التي هيَ عنوان الدِّيوان – هيَ العائلة الإنسانيَّة، ويكون المقطعُ الذي يختمُ به الدِّيوان مقصودًا به الجدل بشأن وجودِهِ وسط هذه العائلةِ؛ حيثُ يقول:
“لماذَا أُحِسُّ- بينَ وقتٍ وَآخَرٍ-
وأنَا أتطلَّعُ إليكُما معًا
أنَّني غريبٌ عنْ هذهِ العَائلَةِ
وأنَّني في الحقيقَةِ لسْتُ مِنْكُمَا أصْلاً
وأنَّني أعيشُ تمثيليَّةً كئيبةً
فكَّرْتُ أنْ أكتبَهَا يومًا مَا في قصَّةٍ بعنوانِ: المجهولْ”.
ويُصوِّر الشَّاعر العجزَ عن التَّواصُلِ، بين أقربِ المقرَّبين؛ فما بالُنا بمن ينبغي أن يكونوا مُقرَّبين؟!، وإذا كانت التَّجربةُ التي ينقلُها الشَّاعر هنا تجربة خاصَّة؛ فيها أمُّه وأبوه؛ فإنها تجربةٌ إنسانيَّة أراد تسجيلَها من بين آلافِ التَّجارب؛ لأنها من أصدقِ ما يمكنُ تصويرُه عن عجزِ إنسانِ هذا العصرِ، ويرصدُ الشَّاعر هذا العجزَ في مشهدٍ دالٍّ، يقول فيه:
“كانتْ أمِّي تنامُ، عاجزةً، في حُجْرةٍ
وأبي في الحُجْرةِ المجاورةِ عاجِزٌ أيضًا
سِتَّة أعْوَامٍ نتنقَّلُ بينَ الحُجْرَتين
ويَسْتمِعُ أحَدُهُمَا إلى الآخَرِ منْ حُجْرَتِهِ
إلى أنْ ماتتْ أمِّي
ولم ترَ أبي
ولا أبي رَآها”.
قد يُفرحنا لفظ التَّحرُّر، ولكنَّ التَّحرُّر الجسديَّ فقط لا يدفعُ عنَّا اغترابنا؛ بل قد يزيد في اغترابنا لو فقدنا الرُّوح أو لو فقدنا براءتنا، فها هو الشَّاعر مازالَ يشكو من تحرُّرٍ جسدِيٍّ فقط لكنَّه نزع معه البراءةَ، وقادَه إلى مجاهلَ؛ لا تقودُ إلاَّ إلى الرُّعب، وإلى مزيدٍ من التَّخبُّط؛ فالتَّحرُّر الجسديُّ لم يصاحبه تحرُّر الرُّوح، يقول:
“المُرعِبُ في المسألَةِ أنَّهَا كانَتْ صديقة أمِّي
الجَارَةُ الَّتي اسْتَوقَفَتْنِي في طريقِ عَوْدتِي
وَأنْبَأتْنِي أنَّهَا سَتَصْعَدُ لِي
لأكْتُبَ رسالةً إلى زوجِها
المرأةُ التي أهْمَلَتْ الرِّسَالةَ، وَحَرَّرَتْ جَسَدِي
وقَادَتْنِي إلى مَجَاهلَ، لمْ أزَلْ أتَخَبَّطُ فيْهَا”.
وفي طريقنا إلى البراءةِ تُقابلنا مفارقاتٌ عجيبةٌ، وفي طريقنا إلى الفرحِ يقابلنا الحزنُ، في مفارقة تلقيناها عن أجدادنا، من خلال طقوسِهم في الأعيادِ؛ فها هيَ الجدَّة تسحبُ حفيدَها المستسلم لها؛ في العيدِ؛ إلى المقابرِ، وها هو يحضرُ مع جدَّته حضورًا جسديًّا، فيتأمَّلها ليجدَها شاردةً، فيُضطرّ لأن يتأمَّل الحياةَ في الطُّرق المؤدِّية إلى الموتى، حيثُ يقول:
“صباحَ يومِ عِيدٍ
أنتِ تسيرينَ في غبْشَةِ ما قبلَ الشُّروقِ
وأنَا أتشبَّثُ بطَرْفِ جِلْبابِكِ الأسْوَدِ
في الطَّريقِ المؤدِّيةِ إلى المقابر
أنْتِ شَاردةٌ يا جدَّتي
وأنا أتأمَّلُ صَحْوَةَ العِيدِ
في الطَّريقِ المؤدِّيَةِ إلى المقَابر”.
نعم؛ لقد كثُرَ الموتُ في عالمنا بدرجةٍ كبيرةٍ، حتَّى صارَ وجدانُ الإنسانِ يحملُ كثيرًا من الموتى، وحيثُ يقولُ الشَّاعر:
“أكْثَرُ أنْحَائِي ذهبَتْ تِبَاعًا
معَ المَوْتَى
وخَلَّفتْني
مقْبَرةً جَمَاعيَّةً
مُثْقَلَةَ الخُطَا”.
ولعلَّ البراءةَ أحد المطالبِ السَّامية؛ التي تجعلنا نعيشُ بسلام، دونَ اغترابٍ، كما أنَّ تحليق الرُّوح في الأعالي يقومُ بنفسِ الفعلِ، لكنَّ التَّحليقَ إلى الأعلى ممنوعٌ في عالمنا، والبراءةُ ممنوعةٌ، ومحاولةُ التَّحرُّر لها عقوبتُها التي تعقبُها، ومحاولةُ الرُّوح للتَّواصل بالأعالي لها أناسٌ غلاظٌ منْ هذا العصرِ يشدُّونها إلى الأرضِ، حيثُ يقول الشَّاعر:
“مُدرِّسُ الألعابِ
البدينُ
ذو الكِرْشِ
والعَصَا الغليظَةِ والسِّبابِ
الَّذي يتصوَّرُ أنَّنا نُصدِّقُ أنَّهُ بَطَلُ الجمهوريَّةِ في المصَارَعَةِ
لمجرَّدِ أنَّهُ مُدرِّسُ الألعَابِ!
هُو الَّذي هَوَى بعَصَاهُ على ذِرَاعِي يا أمِّي
لمجرَّدِ أنَّني- أثناء طابورِ الصَّباحِ- تعلَّقتْ عيناي بطائرٍ
ينطلِقُ إلى الأعَالي
واللهِ مَا تَشَاجَرْتُ مَعَ أحَدٍ
ولا ضَرَبَنِي عيِّلٌ مِنْ العِيَال”.
والشَّاعر مغرمٌ بتحليقاتِه الطُّفوليَّة؛ بل هيَ التي تُشكِّلُ ذاكرتَه وبراءتَه واستمتاعَه، ويقدِّمُ مشاهدَ عديدة من سرديَّات هذا العالم، ومنها قولُه:
“أصْعَدُ السُّلمَ الخشبيَّ إلى سَطْح الدَّارِ
وأُطْلِقُ طيَّارتي الورقيَّةَ إلى أعلَى فضاء
تتموَّجُ كُلَّما أرْخيْتُ لها الخيطَ بمِقْدَارٍ
وتختالُ راقصةً بغَمَزَاتي
ولعِدَّةِ مَرَّاتٍ تكادُ أنْ ترفعَني إلى الأعالي”.
وهو مُتشبِّثٌ بعوالم ومنظورِ طفولةٍ وبراءةٍ يعلمُ بأنها لن تعودَ، لكنَّه ينتظرُ عودتها، ومعها النَّبضُ الإنسانيُّ الفِطريُّ، حيثُ يقول:
“أمَامَ بيتِنَا القدِيْمِ
في انْتِظَارِ الصَّبيِّ الَّذي كُنْتُهُ
قادِمًا على نَبَضَاتِ أمُّهِ
في الحَارَةِ القدِيمَةِ الَّتي كَانَتْ هُنَا”.
لقد صارَ العالمُ المعيشُ لا يطاق، ولعلَّ خصوصيَّة ذلكَ التَّعبير تظهرُ في قولِ الشَّاعر، في أقصر مقاطعِ الدِّيوان:
“كيفَ أصبحَت البلادُ مُسْتنْقعًا لا يُطَاقُ إلى هذا الحَدِّ؟”.
وهو نفسُه يرى أنَّ الحوتَ قد الْتَقمه ولم يخرج من بطنِهِ بعدُ:
“إلى الآنَ لمْ أغادر الحُوْتَ
الذي الْتَقَمَني
وَتَوَغَّلَ في أعماقي
وَأنَا ابْنُ خَمْسَةِ أعوام”.
ويلتقطُ الشَّاعر بعضَ الشَّذراتِ التي يراها إنسانُ هذا العصر؛ بمفرداتِهِ القاتلةِ؛ لكنَّه لا يراها بهذه التَّفاصيل الشِّعريَّة كما يقولُ الشَّاعر:
“حمامةٌ تُغَادرُ بَيْضَهَا
وتُتابِعُ طائرةَ الأباتشي”.
وفي مقطعٍ آخر؛ يُصوِّرُ اغترابَه وحزنَه بذلكَ القطارِ الذي لا يكفُّ عن العُواءِ، حتَّى لتتصوَّرَ أنَّ القطارَ كائنٌ حيٌّ يعوي، فيرى الشَّاعرُ احتراقَه ويسمعُ عُواءَه في داخلِهِ، لكنَّ حجمَ هذا الكائنِ/ القطارِ يُطلِعُنا على ضخامةِ المأساةِ التي يعيشُها الإنسانُ ويحملُها في داخلِهِ:
“قطارٌ مُشتعلٌ
لا يتوَقَّفُ عَنْ العُواءِ
داخلي.”
………
” نُشرتْ في: مجلَّة: الإذاعة والتِّليفزيون”، العدد: 4223، الصَّادر في: 20 فبراير 2016″