حظٌّ عاثِرٌ

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

أتذكر..

حَبَاني حظ عاثر..

كانت تلك الليلة ليلة عواصف وأنواء، ناخ السواد واستحكم، وشوشتِ العتمةُ على الضياء. غشيتني لحظة فرح، وأنا أحلم أن أعود إلى أهلي.

ما كنت أشعر بالتعب وهو يهدني وينال مني. كنتُ آمل، وأنا أعود إلى البيت، أن أستعيد الفرح الطفولي الذي كنت أشعر به وأنا بين أهلي. كان حلمي أن أجد أبيي يرفل سعادة. سروري بالعودة إلى البيت لم يعمر طويلاً.

أتذكر أني طرقتُ باب الدار وانتظرتُ، انفتح الباب، أطلتْ أمي حاسرة الرأس، رفعت عينيها تستجلي من أمامها، في عينيها تختبئ عتمة الليل، لم تعد تتمتَّعُ بحدة البصر التي كانت نساء القرية يتحدثن عنها. زوت ما بين حاجبيها، سقطت دمعة وجرت على خديها. طوقتني بذراعيها، ضمتني إليها بكل ما بقي فيها من قوة وتمتمت بكلمات مبتورة يفصل بينها نشيج وحشرجة. أمسكت يديَّ وقادتني إلى الداخل.

أبي الذي عهدته حَسَنَ الصورة، وسيمَ الطلعة، أضحى شخصاً آخر. كأني لا عهد لي به من قبلُ. حدقتُ في وجهه ألفيتُ وجهاً لم يحلق دقنه من مدة على غير العادة؛ وجه تقرأ فيه آيات التعب والانكسار. كان قاعداً على كرسي ويستند إلى عكاز، سقط الغطاء الذي يستر رجليه، اقتربت منه أخذت الغطاء وأعدت وضعه على رجليه. اقتربت منه أكثر، فاحت منه رائحة تبغ رخيص، أبي الذي لم أعهده يدخن. حَيَّيته وقبلتُ يديه، لثمتهما، ردَّ التحية، كانت تحيته غير واضحة؛ همهماتٌ وحشرجة. طَوّقنا الصَّمتُ للحظة أحسستُ بها كأنها دهرٌ. ولَعْلَعَ صوتُهُ مكسراً الصمت السائد:

” أكان لك أن تغادرنا في ذلك الوقت بالذات؟ أما كان عليك أن تعود إلا بعد فوات الأوان؟”.

قال ذلك وأشاح بوجهه عَنّي. حدقتُ في وجهه صامتاً مصدوماً. وجه مثقل بالآراب. سؤاله غَلَّ فكري. أمي لم تقل شيئاً، اكتفت بالنظر إلينا، تقلب وجهها بيننا وهي صامتة، هي ذي عادتها عندما يُدْمَى قلبُها تغرق في بحر الصمت.

سألت عن أختي، أجهشت أمي بالبكاء، وغادرت الغرفة. سألتُ أبي، كانت إجابته متقطعة. يفقد أبي خيط الحديث وهو يكلمني. وقرَتْ في أُذُنَيَّ جملة يتيمة ممزوجة بنشيج:

” لو كنت بيننا لحظتئذ لانتزعتها من وهدة العار”.

وقعت لفظة العار في أذني، أورثتني أعصابي المهتزة مزيداً من القلق والاضطراب، أحسستُ برعدة عصبية تسري في جسمي وتفقدني توازني. بكى أبي إلى أن انهارت قوته أو ما تبقى منها وتهاوى على الأرض. أمسكته، رفعته وأعدته إلى الكرسي، طأطأ رأسه وحجب عينيه بيديه حتى لا تُرى دموعه. تركته للحظة عَلَّهُ ينَفِّسُ عن ذاته، رفع رأسه، عينان حمراوان من فرط ذرف الدموع، تَكَبَّبَ على نفسه وأسند رأسه إلى يده اليمنى وأجهش بالبكاء من جديد وطلب مني أن أتركه لوحده.

التحقت بأمي التي كانت قد غادرت إلى منوار البيت. قعدت تحت شجرة التوت تذرف الدموع. تجولت بعيني بينها وبين الشجرة، أيقنتُ أن أوراق شجرة التوت لا يمكن أن تسكن ألمها. قعدتُ إلى جانبها، بعد لحظة صمت التفتت نحوي وقالت:

” ابحث عن أختك في المدينة، قال بعض سكان القرية إنهم رأوها في بيت من بيوت اللذة”.

نهضتْ ودخلتْ إلى الداخل.

 اتجهتُ إلى مقهى القرية، أخبرني أحدُ أصدقائي، أن من غَرَّرَ بأختي غريب عن القرية. استبدَّت به الندامة. قال ذلك وأسند رأسه إلى الطاولة. طلبتُ منه أن يدلني عليه، توسلتُ إليه، لم يحدث طلبي وتوسلاتي فيه أثراً. نظر إليَّ بعينين من نار، نظرته أوقدت في نفسي تساؤلات وشكوك.

علمتُ، فيما بعد، أن صديقي ذاك هو من غرَّرَ بأختي، مستغلاً في ذلك طيبوبة والديَّ وثقتهما به. عرفت ذلك بعد فوات الأوان؛ بعد أن غادر إلى وجهة غير معلومة.

الجو عاصفٌ والسحب مثقلة بالظلمات. أسعى إلى ترويض الغضب الذي يطوقني. أقترب من النافذة، أطِلُّ، برقٌ ورعدٌ ووابل مطر، البرد يلسع وجهي، أرفع ياقة قميصي وأخبِّئُ كَفَّيَّ في جيب سروالي وأبحث عن سلام مع نفسي.

أتذكر، اليوم، أن السلام مع نفسي، من يومئذ، أضحى مستحيلاً.

 

مقالات من نفس القسم