البحرُ.البحرُ يا سهر.يجثمُ في المسافةِ الموحشةِ بيننا.بحرُ الألم و الحزن و الخساراتِ الفادحة و كان على أحدنا أن يعبرَ نحو الأخر،مخلفاً وراءه كلَّ المدنِ و الشواطىء التي عرفها و استكانَ إليها ملياً و كان من بالغِ الصعوبة عليَّ أن أنسى،و أن أٌغرِقَ كلَّ تلكَ الأشياء في النسيان،لأنني و ببساطةٍ لا أملكُ غيرها.خمسون عاماً و أنا أشيدُ قصرَ الألم والخساراتِ وحيداً،خمسون عاماً وما في ذاكرتي إلا ألمي.عند الفجر،جاءَ من بعيدٍ رجلٌ عجوز،بلحيةٍ بيضاء طويلة وكثّة تغطي وجههُ المُرهق تماماً.ألقى عليَّ السلام بصمت ثم ولجَ البحرَ يعومُ وحيداً.أخذتُ أراقبهُ كالمشدوه.
كان واضحاً أنه يشعرُ بالبرد وأن أوصالهُ ترتعدُ تحت الماء.يسيرُ باضطرابٍ على رؤوسِ أصابعه،يُبعدُ المياهَ عنهُ بيديه. وقد ذكرّني ذلك المشهد بغلافِ رواية اسمها “الشيخ والبحر”،أقتنيها في مكتبتي دون أن أتحمّسَ يوماً لقراءتها،إلا أنه و في فجرِ ذلك اليوم ألمت بي رغبةٌ قديمة بكتابة رواية.
فكرّت بذلك كثيراً فيما سبق،إلا أنني كنتُ أكفُ عن المحاولة بعد صفحتين أو ثلاث في أحسن الأحوال،كنتُ أريدُ أن أكتبَ عني و عنكِ،عن نمر و سهر،دون أن يكونَ هناكَ لا نمرٌ و لا سهر، فأخذتُ أبحث عمّن يعادلنا،عمّن يستحقُ أن يكونَ حاملاً لحكايتنا.قررتُ أن أكتبَ عن سجينٍ يخرجُ لتّوه من السجن إلى الحياة،في البدء جعلته لصاً ثم أردتُ أن أضفي بعضَ العمقَ على الحكاية فجعلته معتقلاً سياسياً،ذلك أنه لا يليقُ بلصٍ أن يكون بطلاً فاللصُ كالعاهرة،فاقدٌ لكلِّ القيم و أيُّ شخصيةٍ مخزيةٍ هي تلكَ التي لا تنطوي على أبسطِ القيم و أهمها في الحياة،فالعاهرة التي تبيعُ جسدها من أجلِ أن تأكل،أو من أجلِ أن تعملَ كي تأكلُ لا تستحقُ مجردَ التفكير في جعلها بطلة لقصةٍ أو رواية،فالحاجةِ و العوَز مهما بلغت درجتهما و مهما تملكا من الإنسان،لا ينفيا وجود القيم في الحياة.ربما أبدو مثالياً،أو شديدُ الإغراقُ في المثالية،إلا أنه أيُّ معنى لوجودٍ خالٍ من القيمة،من الأخلاقِ في أبسطِ تجلياتها؟و حين يحتّمُ على الإنسان أن يمت،فليمت دفاعاً عن كلمةٍ و مبدأ،فليمت بشرف،جاعلاً لموته طعماً مختلفاً تماماً عن مجردِ موتٍ ميكانيكيّ محتّم لن يفرَ منهُ أحد،و قد أخذتُ أفكرُ بكتابةِ جملتين كملخصٍ للحكاية فبدأتُ على الشكلِ التالي:
“حكاية مثقفٍ طليعيّ في واحدٍ من أعتى سجونِ الأنظمةِ الديكتاتورية الشمولية في العصرِ الحديث“.
وقد جعلتُ من المعتقلِ السياسيّ مثقفاً لأنه من الغير الممكن الكتابة عن معتقلٍ إسلاميّ يحلمُ بالأنثى داخل زنزانة،فالحكاية هي أولاً و أخيراً حكاية الأنثى.الأنثى و الرجلُ الخاسرُ الخارجُ لتّوه من الجحيم،و كان على الأنثى أن تمدَ يدها له،في محاولةٍ مُتعبةٍ تعيدهُ إلى الحياة،قوامها الحُب،إلا أن السؤال الذي أحارني كان يتعلّق بمدى و احتمالات النجاح و الفشلِ في تلكَ المحاولة،فهل تفلحُ أنثاه في ذلك أم أنه سينكفأ على نفسهِ من جديدٍ رافضاً بشكلٍ قاطع التصالحَ معها و الغرقَ في عالمٍ مختلفٍ تماماً عنه أنجبها؟و كنتُ أميلُ نحو الخيار الثاني،حجتي في ذلك هي شرط الواقعية في القص و السرد و التحليل،فالرجلُ الذي عانى وطأة الاعتقال في واحدٍ من أعتى سجونِ الأنظمة الديكتاتورية الشمولية في العصر الحديث لن يكون رجلاً عادياً من جديد،و من تغرّبَ عشرَ سنواتٍ في أقبيةٍ تحتَ الأرض،لن يكون من اليسير بالنسبة إليه أن يرمي ماضياً مُشبعاً بالأسى و بالحرمان،و حين ستقعُ أنثاه في غرامه و يقع هو الأخر في هواها فإن ذلك لن يزيده سوى عذاباً و كآبة،فلا حيزَ في هذا العالمِ الأسود للحُب و لا وقت لمزيدٍ من الخسارات و الألم و الأحزا.شخصية كهذه لن يكون من اليسير بالنسبةِ إليها أن تضحكَ حين تشاهدُ حلقة من مسلسل “أنا وأربع بنات”،أو أن تبكي لأن “مصطفى قمر” قد تشاجرَ مع “ياسمين عبد العزيز” في فيلم “حريم كريم”، أو أن تبدي إعجابها بمعطف “إليسا” في كليب “بستناك“!
وهكذا حُكِمَ على تلك المحاولة وتلك العلاقة بالتالي بالفشل بلا سببٍ موضوعيّ،سوى مرارة التجربة السابقة ومقدار الألم في ماضٍ تعيس.بمعزلٍ عما قد يحصل بيني وبينكِ،و بمعزلٍ أيضاً عن الطريقة التي ستنتهي بها حكايتنا أو ستستمر،كنتُ أريدُ أن أجعلها نهاية حزينة،بل شديدة الحزن و الوجع،ذلك أن النهايات السعيدة لا تحدث أبداً في الحياة،لم تحدث لي أنا على الأقل،على ضوءِ خمسين عاماً من الكفاح في هذا المعتركِ العبثيّ المضني،كلُّ الأشياء انتهت فدفعتُ الضريبة الغالية وحيداً،و الآن ما الذي سيختلف؟
أنا لستُ متشائماً،و إنما ليس لأحدٍ أن يعرفَ كيف يحُبُّ الرجلُ الخمسينيّ سوى رجلٌ خمسينيّ،دعيني أعودُ قليلاً إلى تفاصيل الرواية، مثقف طليعي في سجن النظام الديكتاتوري،سُجِنَ عام 1990 و خرج عام 2000،عشرُ سنواتٍ في السجن، أيُّ ندبةٍ ستتركها في روحِ رجلٍ حالمٍ يحُبُّ بصدقٍ وبجنون؟يُحِبُ أحلى فتيات الشام وأروعهن على الإطلاق.
يخرجُ الرجل ليجدَ كلَّ الأشياء قد اختلفت:لشام التي عرفها لم تعد الشام التي خرجَ إليها نصفَ حيّ ونصفَ ميت، حبيبته تزوجت، والدته توفيت،والده أصابه الكِبَر والمرض،أخته تزوجت ثم سافرت بعيداً. خرجَ الرجلُ إذاً،غريباً كأنه وِلِدَ لتّوه، وكان يترتبُ عليه أن يعيدَ بناءَ علاقاتهِ مع المكان والزمان والأشخاص والأشياء، والأهم من ذلك، مع التغيير الشامل الذي أصابَ كلَّ هؤلاء كالزلزال، فمن أين يبدأ؟ وكيفَ له أن يعودَ إلى الحياة من جديد؟
هنا ينبغي على المثقفِ فيه أن يتحّرك،فيبدأ في توثيق التجربة المريرة،ليكتبَ عن عشرِ سنواتٍ في زنزانة،في العالم السفليّ،في الجحيم على الأرض،ثم يُقَام حفلُ توقيعٍ للكتاب في بيروت.هناك يتعّرف على صحفيةٍ لبنانيةٍ شابة،عمرها خمسٌ و عشرون عاماً،نِصفَ عمره تماماً،تحّبهُ الصبية بجنون فيبدأ الصراع،و يبدأ الألم من جديد لينتهي بالنهاية الحزينة التي حدثّتكِ عنها قبلَ أسطرٍ قليلة. قد بررتُ لكِ لمَ يتوجبُ على النهاية أن تكونَ حزينة،إلا أنه من واجبي الآن أن أحدثكِ أكثرَ عن الصراع الذي سيبدأ مع الحُب،و عن الأسبابِ النفسية الحقيقية الكامنة وراء الفشل و عدم الاستمرار:إن ذلك يتعلّق أولاً بظروفِ الاعتقال،و حين سأكتبُ عن ظروفِ اعتقالٍ سابق فإن الأمرَ برّمتهِ سيتعلّق بالذاكرة البصرية،ذلك أن البطلَ حين كان ينظرُ في عيني البطلة كان لا يرى فيهما سوى انعكاساً لصورةِ السجّان في ذاك المكانِ الرطب القابعِ تحت الأرض و تحت سطح واقعٍ يعومُ على العبث وعلى أوجاعِ المفقودين،و كان ذلك يصيبه بالكآبة و بالانقباض و بالرغبة في الانزواء وإعادة إدراك كلّ التغييرات التي أصابت الأمكنة و الأشياء،و التي أصابته هو على وجهِ الخصوص.ظروف الاعتقال إنما تشملُ أيضاً منظومة فكرية راسخة في عقل هذا البطل و الأمرُ هنا مرتبطٌ بصورةِ الأنثى في مخيلة المعتقل.من البديهيّ أن أخرَ ما يعنيه السجن هو كونه مكاناً ما في بقعةٍ ما على وجهِ هذه البسيطة،و مع ضرورة عدم إهمال عامل الزمن في تجربة السجين إلا أن السجن يبدو قبل كلّ تلك الأشياء فضاءً مكشوفاً وفسيحاً للمُتخَيَل:بمعنى أنه مسرحٌ للأحلامِ الواقعية،الأحلام البسيطة التي يستطيعُ أيُّ رجلٍ عاديّ أن يحققها بفائق السهولةِ واليسر.
السجن مكانٌ يضفي القيمة على أشياءٍ تبدو للوهلةِ الأولى بلا قيمةٍ على الإطلاق.لمن كان خارج السجن و لمن هم خارجه اليوم:أن يذهبَ شخصٌ ما كي يقرأ جريدة و يشربَ فنجان قهوة في مقهى شعبيّ،أمرٌ بغاية البساطة،و لكنه داخل القفص يصبحُ تدريجياً و بشكلٍ تراكميّ حلماً بعيد المنال، الحُلم الواقعيّ،الذي لا يحول بينه وبين جعله حقيقة سوى قضبان السجن والطابور الطويلُ الطويلُ من العسكرِ والشرطة.الحقيقة يا سهر أن تجربة السجن كان تغريني منذ زمنٍ بعيد.بعيدٍ جداً،و لا أدري سبب ذلك الإغراء،إلا أنني كنتُ أرى فيها دوماً تجربة تستحقُ أن تُعاش وأن يُكتب عنها الكثير الكثير.الحرّية هي أسمى القيم،و هي الشرط الأساسيّ للعيش،و حين يفقد الإنسان حقّه في أقدسَ الأشياء و أهمها فأيّ معنى تكتسبه الحياة بعد ذلك؟
وأيُ معنى تكتسبه الحياة لمن خرجَ من تلكَ التجربة حيّاً؟كنتُ دائماً حين أفكرُ بالسجن كفضاءٍ للمُتَخَيل أقفُ عند الجنس،عند الحرمان الجنسيّ،و عند كل الصور المرئية التي قد توازي حالة مريرة كتلك.حينَ دخلَ البطلُ إلى السجن كان يتوّقع أن يخرجَ سريعاً.كان يقاوم مخاوفه في أن يدومَ هذا الليل عليه.في البدء قامَ بإعادةِ تقييمٍ كاملٍ لكل الأشياء التي فعلها في هذه الحياة و قد امتلك الوقت الكافي للمرّة الأولى،و كانت هنا بداية العلاقة مع الزمن في الزنزانة كزمنٍ ذاتيّ محض، يملؤه بما يشاء.حين توالت لياليه طويلة هناك،صارت حبيبته المُتَخَيل شبه الوحيد.كان يستعرضُ في مخيلته ملايين الصور خلال النهار.يجلسُ وحيداً في الزاوية،بقعة ضوءٍ تهبطُ عليه من النافذة الضّيقة العالية،قطراتُ ماءٍ تتز من السقفِ على الأرضية الموحلة،جلبة عناصر الأمن و الشرطة في الخارج و دويّ أحذيتهم العسكرية السميكة،و فيضٌ من صورٍ لا تُعَدُ و لا تُحصى.
في البدء كانت كلُّ الأمور طبيعية،الصورُ و التخيلات مماثلة تماماً لأحلام اليقظة و تجليات الأنثى في حالة الجماع و قمة النشوة الجنسية في الاحتلامات الليلية التي تراودُ أي أحد،إلا أنه و مع مرور الوقت،و اتساقاً مع جثة الزمن الثقيلة الهامدة بين أربعةِ جدرانٍ شديدة الضيق،لم يعد ما هو عاديُّ يكفي بالغرض،و لم تعد الصور و الأحلام العادية التي تراودُ الأشخاص الطبيعيين تناسبُ بطلاً لم تجعله التجربة عادياً على الإطلاق،فأطلق لخياله العنان،و اتجهت كلُّ الأشياء نحو الشذوذ.
أجدني هنا غيرُ قادرٍ لا من موقعي ككاتب و لا من موقعي كقارئ أن أحاكمُ ذلك محاكمة أخلاقية أو عقلية حتى.ليس لأحدٍ أن يطبّق حُكَم الأخلاق أو العقل على ما هو فاقدٌ كلياً لهاتين القيمتين.حينما يدورُ الحديث عن السجن،عن الأسر،بأبشعِ صوره وتجسيداته، سيبدو الحديث عن الأخلاق أو العقل شديدِ التفاهة والخفوت.من الطبيعيّ أن تتجه كلُّ الأمور نحو الشذوذ والجنون،في خضمِ واقعٍ فاقدٍ لكل المعاني المنطقية و الآدمية،إلا أن كلَّ تلكَ الصور والرؤى والذكريات كانت تنصهرُ لا إرادياً في سياقِ واقعٍ شديدِ البؤس .
كانت كلُّ الأشياء تختلط برائحةِ البول والخراء القادمة من المرحاض القريب،بأزيز الفئران والصراصير التي تصولُ وتجولُ في المكان،شتائم الحرس والشرطة والتي تسبحُ في مجملها في بحر الشرفِ والعرض ممثلاً بالأنثى كأقدسِ الرموز لهاتين القيمتين.
إذاً كانت الأنثى كتجريدٍ صوريّ محض تمتزجُ لا إرادياً بكلَّ الأشياء القميئة،التي يرغبُ المرءُ فورَ خروجه من ذلك الجحيم برميها،بالتخلص منها،بنسيانها كمرادفٍ تامٍ للألم و الحرمان،و للقرف و الأوساخ و الوجع.
هل تدركين ذلك يا سهر؟هل ستفهمين الآن لمَ حكمتُ منذ البداية على تلك العلاقة بالفشل؟و إن فعلتِ أنتِ ذلك فهل سيعترفُ الآخرون بهذه الأسباب كأسبابٍ موضوعية لفشلِ علاقةِ حُب تبدو الأمور فيها ظاهرياً سائرة نحو التمام و التوفيق؟
أنا لا أظنُ ذلك،لأنه حينما يحاولُ أحدٌ ما أن يحللَ علاقة عاطفية فإنما يبدأ بالواقع،بالمعطياتِ التي يملكها،و هو بذلك إنما يغلقُ أهم المعابر التي عليه أن ينفدَ منها إلى صميم الموضوع،ينسفها تماماً بمجردِ أنه لا يعرفُ عنها شيئاً،لذلك تجدين أن الجميع يستخدمون نفس العبارات حين يحاولون تبرير أسباب الفشل أو الطلاق،فيقولون أنه لم يحصل اتفاق،أو أن الحياة معها أو معه لم تعد ممكنة،أو أن المشكلة تكمنُ في الاختيار الخاطئ منذ البداية،و إلى غير ذلك من الكلام،و قد يقولُ أحدهم أنه لم يُكَتَب لنا أن نستمر،كما فعلتُ أنا حين كتبتُ لكِ عن إيلينا،إلا أن الحقيقة دوماً تجدينها مختفية وراءَ تلك العبارات الفضفاضة و التبريرات الجوفاء التي لا تنفعُ أحد،فحين يأتي أحدٌ ما راغباً بالنبش في الخبايا و الأسرار و التنقيب عن الأسباب الحقيقة لكلّ ما يحدث فإنما عليه أن يبحث عن التفاصيل،فالشيطانُ دوماً يكمنُ في التفاصيل،و كل التجارب التي تتعامل مع المشكلات كحالاتِ مستقلةٍ مجتزأة من السياق فإنما هي تجاربٌ فاشلة قبل أن تكتمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمرو علي
مخرج وكاتب سوري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية “حصار السرطان” – تحت الطبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة