حذائي

حسين عبد الرحيم
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حسين عبد الرحيم

أكتب عن حذائي، ليس أي حذاء، حذاء حدقت فيه عيني وهي ترقب حركة الأصابع، تلك الهوات الخمس، مخادع تسمى راحة القدم وهي قبر، قبور تتحرك في بطن نعلي، هل راقبت تلك الوجوه التي عبرت ومرت بذاكرتك عبر عقود خمسة؟ّ!
أظنني فعلت، راقبت حذاء جندي كان يسير بمحاذاتي في ليل بعيد على وقع مارشات القتلى في صحراء الحروب، كانت قدمه اليمنى تنحني قبل اليسار، وإبهامه قد تمرد على الالتفات تعللا بالخوف من أحاديث جانبية لموتى وقتلى، أشباح في معارك لحروب منسية. كنت أرقب أحذية رفاقي في الليل، وأنادي: أشرف.
ويصعد جسد فارع وقد بزغ متوسط القامة.
ناديت أشرف من جديد، فنظر لي حذاؤه المترب من وسط الرمال الباردة في صحراء دهشور، مر من أمامي، عند الرصيف الأيمن، كان خرس، يمشي وحده بأفرول كالح، وكلما دنا، كان الجسد يتعاظم حتى بلغ عنان السماء، وأنا أرقب الحذاء الفارغ، وقد ركض وحده ضاحكاً بسخرية وزاد بريق لمعانه رغم قدمه وتشققه، كان يصفر رويدا رويدا كلما سلطت ضوء البطارية الهارب، في العام العاشر بعد التحرير، كانت أحاديث الجنود، ألتفت بغتة وكلي رعب، فلا حذاء ولا جندي إلا رمال تتحرك وسط جلبة فئران بيضاء تشبه الأرانب.

ثلاثون عاما مرت وهاأنا ذا، العائش في ذكريات الصوت وصدى صواريخ سام 6، الفارغة منتصبة جهة سماء الله، أصر على التحديق لوطأة الأصابع في الهوات والغرس في الرمال لخمسة.

أحذية فارغة، ورقدة طالت بلا منتهى ورغم أن الحذاء القديم قد تمزق إلا أن للجلد الميري غلاظة وقوة صبر، تخانة تكسوها لمعة تخايلني، أسمع وقع خطوي، وخطوهم الثقيل في فضاءات الصحراء التي طالت، من العاشرة مساء من محطة باب الحديد حتى مطلع الخنازير بالكيلو 38 ، لم تزل الذاكرة تترى بتلك الجلبة لكائنات ملائكية نخشى النظر إليها، وقت دخولنا الذي طال تلك الليلة حتى قبل أذان الفجر بدقائق قليلة وقت أن فر أشرف من وسط الطريق فلم يري إلا مع ضوء الشمس، كان يرتعش تحت السارية ونحن نردد: إيمان مجد وعزم.

……………….

*من “يوميات البناية”

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال