عبد اللطيف النيلة
وجهها شاحبُ البشاشة، بريق عينيها خامد، وابتسامة مفتعلة تنوء بها شفتاها. تعانقه ببرود:
– عْلى سْلامتك!
– االله يسلّمك!
يجرّ حقيبة السّفر إلى غرفة النّوم. يبدي رغبته في أخذ دشّ، تضع رهن إشارته ثيابا وفوطتين، تشغّل سخّان الماء. عندما يفرغ من اغتساله، ينشّف جسده ويرتدي ثيابه.
– أشعر بأن تعبي قد تبخر.
– بالصّحة والرّاحة.
يحدّق في عينيها، يسألها:
– ما لك أَلطيفة؟ أحسّ أنّكِ لستِ على ما يرام!
***
كان حسام يهدر اللّيل كلّه في الدّردشة عبر المسّنجر واستهلاك فيديوهات اليوتوب، مدخّنا السّجائر على رشفات القهوة، ولا يصحو من النّوم إلا عند الظّهر. لطيفة تذهب إلى عملها بمركز البريد، وعندما ترجع إلى البيت بعد الرّابعة مساء، تجد زوجها يفطر مستأنفا نشاطه اللّيلي. تسخّن الغداء -الذي تعدّه ليلا وتحتفظ به في الثلاجة- وتتغذى بمفردها.
كلّما حدّثت صاحبتها عنه تنهّدت: “لقد تعبت يا أختي.. لا يريد أن يتحمّل أدنى مسؤولية، الفرجة والأكل والنّوم لا غير.. تصوّري أنّه يتناول حبوب فتح الشّهية، وقد اشترى ميزانا، ولا يفتأ يصعد فوقه من فترة لأخرى ليعرف إن كان وزنه قد زاد!”.
نبضت أعماقها فرحا وأملا وهما يجوبان حوانيت الأسواق القديمة، بغية اقتناء ما يحتاجه من أشياء في سفره. اشترت له أوّلاً حقيبة فاخرة أصرّ أن تكون مزوّدة بعجلات، ثمّ ملابس جديدة، دون نسيان حافظة النّقود على هيئة حزام. أحبّت أن يعبُر إلى الضّفة الأخرى أنيقا كما يحبّ. لذلك اضطرّت إلى الاقتراض من البنك من غير تردّد، رغم ما يترتّب عن ذلك من إرهاق كاهل ميزانية البيت.
أخيرا سيبتسم له الحظّ! لن يكون أقلّ من أولئك الذين عادوا من إسبّانيا بالسّيارات والعقارات والأموال الطّائلة على الرّغم من أنّ أغلبهم لا يتوفّرون حتّى على شهادة الباكالوريا.. حدّثت نفسها: “سيُعوّضني عن كلّ الخسائر الّتي ألحقها بي وتعرّضت بسببها لتوبيخات لاذعة من أهلي.. سيُعفي نفسه من لعب دور الكومبارس، أحيانا، في أفلام هوليود التي تُنجَز باستوديوهات وارْزازاتْ، مقابل مبالغ مالية يبذّرها في سهراته مع أصحابه.. ستنضمّ يده إلى يدي كي تصفّق لنا الحياة”.
***
– تحسّ؟! لم أخطر ببالكَ مُذْ سافرتَ، مجرّد اتّصال هاتفي بسيط استخسرته فيّ!
يطلق ضحكة صغيرة، قبل أن يعقّب:
– هذا ما يقلقك فقط؟ خشيت أن أكون قد اقترفت شيئا يستوجب سخطك.
يردف راميا إياها بنظرة كأنه استعارها من عاشق ولهان:
– أنا أحتمل كلّ شيء إلا سخطك.
يمسك يديها، يميل عليها يروم لثم شفتيها، تصدّه:
– لِمَ لَمْ تُتَلْفِنْ؟
-والله لم أفعل ذلك عمدا، لقد سُرق هاتفي في النّاقلة التي استقللتها إلى طنجة. الشّاب الذي جلس على المقعد بجانبي استغلّ نومي وانطفاء الضّوء، فمزّق جيب معطفي بشفرة حلاقة، وسلبني هاتفي.
– الهاتف فقط؟
– اطمئنّي، كانت الفلوس في حافظة الحزام.
يدفعها برفق إلى السّرير، ينطرح بالقرب منها. يحاول أن يدنو من شفتيها مرّة أخرى، تبعد وجهها:
– قل لي أوّلاً، لماذا عدت؟ ألَمْ تسافر من أجل التسلّل إلى إسبّانيا عبر سبتة؟
– دعينا الآن من ذلك الهمّ، أنا مشتاق إليك، فقد مضى أسبوعان على وداعنا. سأحكي لك ما وقع فيما بعد.
يعاود محاولة اقتناص الشّفتين، تصدّه بيدها:
– إذن، لم تقْض غرضك؟
– كلا، عليّ أن أنتظر قليلا.
– لماذا؟
يطلق من جديد تلك الضّحكة الصّغيرة:
– نامي على جَنْبِ الرّاحة آحْبيبتي، مالُك محفوظ ولا تحسبي لِلَحظة أنّي أهدرته، والعبور إلى إسبّانيا مضمون، لكنّ عيون حرّاس السّواحل يقظة هذه الأيّام، هل تريدين أن أغامر بنفسي فيلقوا القبض عليّ؟ لقد اتّفقت مع المهرِّب على أن يتّصل بي حين يكون الوقت مناسبا للعبور…
يجذبها نحوه بقوّة، تنفلت منه مطلقة ضحكة مفتعلة، ملتمسة منه دقيقة واحدة. تنهض من السّرير، تفتح الدّولاب، تستلّ من بين الثياب فستانا، تنظر إلى زوجها بغنج، ثم تقصد الحمّام…
تعود فاتنة الجمال طاغية الغواية؛ فستان نومها الأحمر يكشف عن تقاطيع جسدها، والكحل أسبغ سحرا على العينين والرّموش، فيما باتت الشّفتان أشهى تحت طبقة الأحمر القاني.
عاريا كان يرقد على ظهره، تحت الضّوء الأحمر للأباجورة. تُحرّك أمام ناظريه أشرطة حريرية قصيرة لا يدري من أين أخرجتها:
– هل تذكر؟
يهزّ رأسه بالإيجاب متبسّما؛ كان هو الّذي علّمها لعبة الأشرطة. تضيف:
– الدّور دورك هذه المرّة.
من الرّسغ تقيّد يمناه إلى أحد قضبان السّرير، وتقيّد يسراه إلى قضيب آخر، قبل أن تعمد إلى تقييد قدميه من الكاحل.
-إرخي العُقد قليلا، فهي تؤلمني.
تتضاحك ولا تجيبه، تسجّل ملاحظة وهي تتفرّس في جسده:
– أصبحت بشرتك برونزيّة على نحو رائع!
– تعرفين أنّها تتأثر بسرعة بهواء البحر.
***
بعيني خيالها ترى لطيفة شاطئ الصّويرة غاصّا بالمصطافين. أجساد شبه عارية تستلقي على الرّمال تحت الشّمسيات، وأخرى ليس بينها وبين لفح الشمس واق. أجساد تمتح من بهجة اللّعب، وأخرى تغطس في مياه البحر.
اقتعد حسام وصاحبته فوطتين على بعد ثلاث خطوات من البحر، حتّى أن الأمواج كانت تهجم عليهما من حين لآخر. كانت نظراتهما تسرح، باسترخاء، في منظر المياه الهائلة الزّرقاء، المتماوجة، العاكسة لأشعة الشّمس، يتبادلان من آن لآخر التّعليق على ما يقع تحت أنظارهما: سفينة تبتعد مقتربة من خطّ الأفق، قوارب شراعية تمخر العباب، أشخاص يسبحون، طائرة ريح ترتفع عاليا في السّماء وقد أمسك بطرف خيطها صبيٌ يلعب بمتعة.
تمدّ يده علبة مارْلبورو إلى الصّاحبة، تستلّ سيجارة ويستلّ هو أخرى… يستغرقان في سحب الأنفاس ونفثها فيما هدير البحر وصخب المصطافين يقرع سمعَيْهما.
بحركة من أصابعه يقذف بعقب السّيجارة إلى موجة مقبلة، ويستلقي على ظهره مغمضا عينيه. لا تلبث الصّاحبة أن تفعل مثله. يتيح الاستلقاء لجسدَيْهما أن يتماسّا جانبيا دون إثارة الانتباه. يخفّفان من لفح الشّمس للوجه والرّأس بنظّارتيْن وقبّعتيْن.
– نسبح؟ يسألها فجأة.
– دعني أستلقي قليلا، تردّ بصوت رقيق كما لو كانت تتوسّل إليه.
– خذي راحتك آحْبيبتي! يهمس في أذنها.
يخطو باتّجاه المياه المصطخبة، تغوص قدماه بالتّدريج، يبلّل عنقه وصدره، يرشّ ظهره فيشعر بالقشعريرة. تلحق به الصّاحبة فورا. يفرح حين يفاجأ بوجودها بالقرب منه. يخوضان معا غمار البحر سباحة حتّى ينْأَيا عن نظرات الآخرين، ثم يتعابثان… يخرجان من البحر والأمواج تلطم ظهريهما ليعْدُوا صوب الشّاطئ وضحكاتهما تترقرق.
***
على شعر صدره تمرّر أناملها، تقول بنبرة ساخرة:
– يبدو جسدك مُبرْنَزاً جيّدا يا حبيبي، وما أظنّك إلا أخذت وقتا كافيا لتلويح بشرتك بهواء البحر وشمسه وملوحة أمواجه.. وفي تقديري أنّ الصّويرة مرشّحة أكثر من غيرها لإحداث هذا المفعول، خصوصا إذا كانت تلتصق بك واحدة من بنات الزّنقة.
على الفور، تتبدّى الصّدمة على وجهه، يتلعثم:
– ماذا تقولين يا لطيفة؟!
تفتح هاتفها الذّكي، تريه الصّور التي توصّلت بها من صاحبتها قبل أيّام. كانت في شاطئ الصّويرة، فصادفت الفضيحة.
تُشعِل الموسيقى، تطفو على سطح ذاكرتها صور من نذالاته: قطعة الأرض الّتي كانت تحلم ببناء منزل فوقها، فأقنعها ببيعها من أجل تسديد ديونه، الشّيكات الّتي كان يمهرها بإمضائها المقلَّد ويسحب مالا من رصيدها دون علمها، درّاجتها النّارية الّتي ادّعى أنّها سُرقت في غفلة منه… ثمّ الفضيحة الأخيرة! تُخرج من دُرج منضدة السّرير موسى حلاقة، تفتحه ببطء، أمام نظراته المشدوهة، غير المصدّقة. تتلألأ فضّة الشّفرة تحت الضّوء الأحمر، يعلو صوته متوسّلا:
– ها العارْ آحْبيبتي! ها العارْ! عَمَّرْ داوْدْ ما يْعاوْدْ…
من حِجْره تدنو الموسى، فيما توسّلاته لم تنقطع، وقد أصبحت مشحونة رعبا، وانسحب الدّم من وجهه. بحركة غاضبة، تقذف بالموسى فوق صدره، وتصرخ باشمئزاز: “تْفو!”.
ترتدي ثيابها على عَجَل، تحمل الحقيبة الّتي وضّبتها من قبل، وتصفق الباب خلفها بقوّة.