علي عطا
بدأ الشاعر المصري أحمد الشهاوي المولود عام 1960، مشواره الإبداعي عبر ديوان “ركعتان للعشق” عام 1988، ومذاك لم يبرح تيمة العشق في معظم ما أصدره من أعمال إبداعية.
هذه التيمة ميَّزت كتابات كثير من شعراء المتصوفة في اللغتين العربية والفارسية، فبدا كأنه امتداد لهم، لولا أنه اهتمّ على نحو خاص بالبعد الحسي في العشق، فنزل به في كثير من الأحيان من السماوي إلى الأرضي، على نحو لا لبس فيه.
وهكذا أحيا ما يُسمى بـ”أدب العشق”، وقدم فيه ما تجاوز به السلف، مراعيًا بقدر استطاعته مقتضيات عصره التي طغت ماديته على كثير من قيم الإخلاص للمحبوبة، التي هي عنده أقوى من الفناء، وقد جسدها على نحو خاص عبر أمّه نوال عيسى.
ورغم وفاتها وهو طفل صغير، ظلت أمّه تلهمه وتحفزه على مواصلة رحلة الإبداع، في سياق يكاد يخصه وحده، ومن هنا اعتاد أن يهدي لها كل عمل جديد، بما في ذلك روايته الأولى “حجاب الساحر” (الدار المصرية اللبنانية)، وقد استهلها بـ”إلى نوال عيسى… بسبب الرحيل أذهب إلى فراشي وأنا خائف من غدي”.
ولأن عينه لم تغفل عن غد مجهول، فقد أهدى العمل نفسه إلى ابنه الوحيد: “إلى أحمد ابني… ضع بنفسجةً على قبري كلّما طلعت شمس، وستأتيك الشمس كعادتها معك”.
وقد يفسر ذلك اختيار الكاتب اسم “شمس” لبطلة روايته، وقد أعطاها ملامح وقدرات أسطورية، تجعلها أكبر من أن تكون مجرد امرأة، في الخمسين من عمرها، أخلص في عشقها كهل بقدرات وسمات تجعله أكبر من أن يكون مجرد رجل تجاوز الستين من عمره، ويلهبه العشق حسيًا معنويًا ولا يأبه في أن يفنى في معشوقته التي لربما كان كل ما فيها من صنع خيال جموح.
الحب الصّوفي
في “الأدب الصوفي”، أصدر أحمد الشهاوي في بداية العام الحالي كتابه “سلاطين الوجد… دولة الحب الصوفي”، وقبل أن ينتهي العام نفسه، صدرت روايته “حجاب الساحر”، التي لم تخرج عن سياق أعاجيب المتصوفة التي أراد – ربما – أن يؤكد أنها ما زالت ممكنة حتى في وقتنا الموغل في ماديته، وتقدمه التكنولوجي المذهل.
هكذا ينضم هذان العملان في شكل طبيعي إلى دواوين أحمد الشهاوي، ومنها: “قل هي”، “لسان النار”، “باب واحد ومنازل”، و”سماء باسمي”، وكتبه في “أدب العشق”، ومنها: “الوصايا في عشق النساء، “كن عاشقًا”، “أحوال العاشق”، و”كتاب العشق”، وقد ترجم بعضها إلى الإسبانية والفرنسية والتركية والإيطالية.
ومع ذلك لا ينبغي أن نغفل عن أن “حجاب الساحر” قدمت جديدًا في مسار أحمد الشهاوي الإبداعي، وهو الجانب الروائي، عبر طرح يكشف في سياق واقعيّ معاناة المرأة على وجه الخصوص من استفحال التعامل الذكوري المنتهك لخصوصيتها؛ حتى في محيط اجتماعي يبدو – ظاهريًّا – منفتحًا على قيم مساواة الرجل بالمرأة في الحقوق والواجبات.
وهو برع في أسطرة هذا السياق بحيث يسمو على المباشرة، وينفتح في الوقت ذاته على هموم وجودية عابرة للمكان والزمان، من خلال رحلة معرفية في عوالم السحر الأسود ونقيضه، والسياقات الدينية والمعرفية المتصلة بتلك العوالم، التي يبدو أنها لم تتأثر بأي تقدم علمي حققته البشرية، في الماضي والحاضر، وربما أيضًا في المستقبل.
ومصداقية تلك الرحلة استندت إلى صدق إيمان “عمر الحديدي” الصوفيّ بضرورتها؛ حتى لو لم تحقق الهدف المرجو منها، وهو العثور على علاج ناجع للسحر الأسود الذي تعاني منه “شمس حمدي” وبناتها، ما يذكّرنا على نحو ما بالرحلة التي تمحورت حولها رواية “الخيميائي” لباولو كويلهو، وكذلك رحلة “عبد ربه التائه” في رائعة نجيب محفوظ “أصداء السيرة الذاتية”، والتي ورد فيها أن “خفقة واحدة من قلب عاشق جديرة بطرد مئة من رواسب الأحزان”.
المرأة الوطن
شخصية عمر الحديدي ترى في شمس حمدي، التي هي حتمًا رمز للمرأة القوية، سواء كانت ابنة وقائع تاريخية أو من نسج الخرافات عبر العصور، “عشَّاقة وبريَّة في تعلقها برجلها. تمارس طقسًا تعبديًا ينتمي إلى مصر القديمة قبل أن يغزوها العرب. هي ابنة لعصور متعاقبة ومتراكبة”.
وهنا يمكن من خلال تأمل انقسام السرد إلى مستويين، واقعي وغرائبي، اعتبار تلك المرأة رمزًا لوطن تكالبت عليه المحن والأمراض، ويتوق إلى زمن كان فيه عزيزًا قويًا.
وقد تعززت تلك الرؤية بتنوع السرد ما بين ذاتي تولاه “عمر الحديدي” في معظم الأحيان، وتولّته “شمس حمدي” في أحيان قليلة، وسرد خارجي تولاه راو عليم، كاد يكون شخصية روائية قائمة بذاتها بتدخله بالتعليق على الحوادث، وكذلك على الحمولات المعرفية التي يزخر بها العالم، على نحو يثري صدقه الفني.
يرى عمر الحديدي كذلك أن شمس حمدي علمته العشق وكشفت الكثير من أسرار رجولته “وقد جاء اليوم لأضحي من دون أن أنتظر منها شيئًا”.
هكذا يبدأ رحلته بهدف كشف حجاب الظلمة، أو ما يُعرف لدى العامة بالسحر الأسود، مؤمنًا بأن “العشق قادر على أن يقهر كل شر في النفس أو أي تسلط على الروح”، وواثقًا من أن “طاقة الخيال التي تملأ نفسي هي شمس الروح”.
سيرة ذاتيّة
ولا يصعب على قارئ رواية “حجاب الساحر” أن يلمس ما تنطوي عليه الرواية من شذرات من سيرة أحمد الشهاوي الذاتية، متخفيًا في شخصية “عمر الحديدي” الذي هو مثله شاعر صوفي تعلم في صباه الكثير من أسرار “عمل السحر وفكه” من شيوخ في هذا المجال.
وهو اقترب منهم بحكم أنهم كانوا من جيران أسرته المتدينة في قريته كفر المياسرة التابعة لمحافظة دمياط في شمال مصر، والتي تسمى في الرواية “بني ميسرة” استنادًا إلى حقيقة تاريخية مفادها أن أهل تلك القرية ينحدرون من قبيلة يمنية بهذا الاسم، نزحت إلى مصر منذ قرون عدة، في ظل ما اعتبره السارد الذاتي في رواية “حجاب الساحر”، نزوحًا عربيًّا إلى مصر غيَّر بمرور السنين الكثير من العناصر الحضارية التي كانت تميز هذا البلد وسط العالم.
يصور أحمد الشهاوي بطل روايته عمر الحديدي كأنه نبي لم يُهزم بعد، يحاول إنهاء ما تعانيه شمس (وطنه الرمزي، أو حتى الواقعي)، من كروب تهدد بخسوفها على نحو لا رجعة فيه.
“شمس” المريضة تذكرنا في سياق ما بـ”ليلى” حين قال فيها قيس بن الملوح: “أهيـم بأقطار البلاد وعرضهـا / وما لـي إلى ليلى الغـداة طريـق / كـأن فـؤادي فيه مور بقـادح / وفيه لـهيب ساطـع وبـروق / إذا ذكرتْها النفسُ ماتت صبابـةً / لهـا زفـرة قتـّالة وشهيــق / سقتنـيَ شمس يخجل البدرَ نورُها / ويكسف ضوء البرق وهو بـروق / غُرابيّة الفرعيـن بدريـّة السّنـا / ومنظـرها بادي الجمـال أنيـق / وقد صرت مجنونًا من الحب هائمًا / كأنّـيَ عانٍ في القيـود وثيـق”.
“شمس” التي ابتكرها أحمد الشهاوي، “لم تكن نبية ترعى غنمًا، ومن ثم تقود أممًا بعد ذلك، لكنها كانت ترى أضواء بيضاء باهرة وتشعر بالطمأنينة، وهي تخرج من جسدها متى شاءت”، على حد وصف عمر الحديدي.
في نهاية الرحلة سيقول لها قولًا مأثورًا: “إن المرء نتاج خلواته”، وسيطلب منها أن تخلو إلى نفسها؛ “فلربما ترين أيهن أنتِ من بين النساء اللواتي يعشن فيك. ما يهمني هو أنت، سواء كنتِ إلهة أم أنثى بشرية مقدسة”.
أراد لها في الختام أن تنتبه إلى الخطر المحدق بها؛ “من الماسونية العالمية من جهة، ومن القوى الروحية في مصر من جهة أخرى” (صـ 333).
كان يودعها بعدما أصرت على أن تبتعد عنه بسقمها، الذي أصابت عدواه على ما يبدو، مكتفية بما رأته معه من عجائب العالم في رحلة البحث عما يمكن أن يبطل مفعول السحر الأسود الذي أصابها به واحد من أهلها… “سأطلب أن تحبني أكثر، أو تنساني أكثر، لا أعرف، لم أعد أعرف”. (ص 334).