حانة المشرق

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أزهر جرجيس

ذات يوم فقدتُ ظلّي. لا أدري كيف حصل ذلك، لكنّي حين التفتّ إلى الوراء لم أرَ لي ظلّاً قط. كنت أجوب شوارع المدينة متسكعاً بلا ظل، مع بقعة دم كبيرة على معطفي. لا أدري من أين جاءت، لكن المدينة بدت مهجورةً ذاك المساء الكانوني البارد. كان زجاج الحانات متناثراً على الأرصفة، والطرقات خالية إلا من القطط والكلاب السائبة!

من بعيدٍ رأيت كلباً يجرجر جثّة من تحت لافتة ضوئية مهشّمة. أقبلت عليه محاولاً إبعاده، لكنه لم يكترث. صرخت به محاولاً إخافته، ولكن بلا جدوى، فقد كان صوتي يتلاشى قبل أن يصل إليه. شعرت حينها بأنّ حنجرتي تُطلق هواءً ساخناً بدل الكلام. وحين عجزت عن لفت أنظار الكلب وقفت أراقب ما سيفعل. لقد بدا لي كلباً مألوفاً. اقتربت منه كثيراً، أمعنت فيه النظر، فتذكّرت بأنّي قد رأيته قبل ساعتين من الآن تقريباً.

كنت إذ ذاك جالساً أحتسي الشاي في حانة المشرق وكان العم رؤوف يفاوضني على ثمن تركيب لافتة ضوئية جديدة للحانة. عندئذٍ دخل رجل عجوز يرتدي معطفاً رثّاً وقبعة ممزّقة. كانت تفوح منه رائحة الخمر. ألقى التحية وطلب من النادل قطعة لحم وزجاجة نبيذ. سكب النبيذ على قطعة اللحم ورماها نحو كلب ينتظر عند الباب، ثم غادر. أمسك الكلب بقطعة اللحم وبدأ يقطّعها بأضراسه. لكنّه اضطرّ أن يتخلّى عنها وينصرف حين سمع صوت إطلاق نار من بعيد.

 كانت مجموعة من الملثمين يُطلقون النار في الهواء ويثيرون الفزع بين المارّة. أغلقوا شارع الحانات وألقوا قنبلة صوتية قرب الحانة المجاورة ثم فتحوا النار على الزبائن وزجاجات الخمر المصطفّة على الرف وهم يكبّرون. لقد سجّلوا انتصاراً عظيماً على قناني البيرة وزجاجات العرق والسكارى العزّل، ولا شكّ أنّ غزوتهم ستُكلل بالظفر هذه الليلة. انتقلوا بعد ذلك إلى حانة المشرق، التي أجالس فيه العم رؤوف. كنّا حين سمعنا صوت القنبلة الصوتية، اتخذنا وضع الانبطاح تحت المناضد بانتظار مصائرنا. رفس أحدهم الباب حينذاك برجله ثم بدأ سيل الرصاص يمطر فوق رؤوسنا. حطّموا الحانة بما فيها وملأوا الجدران بالرصاص.

 من تحت المنضدة كنت أراقب المشهد بفزع كبير. كان نهر الخمر يمتزج بالدم ليصنع لوحة سريالية مرعبة، بينما راح الملثّمون يمشّطون الأجساد المرميّة على الأرض ويُجهزون عليها وهم يكبّرون “الله أكبر.. الله أكبر..” أغمضت عيني حينذاك بانتظار رصاصة الموت، لكنّها أخطأت وأصابت رأس العم رؤوف الذي كان يمسك بخاصرته محاولاً إيقاف نزيف الدم قبل ذلك.

غادر الملثمون حانة المشرق بعد أن اطمئنوا لموت الجميع. توقف  بعد ذاك صوت لعلعة البنادق، فشعرت بالأمان وقرّرت الخروج من بحيرة الدم والخمر تلك. نفضت عنّي شظايا الزجاج المتناثر وأزحت جثة العم رؤوف ثم تسلّلت إلى الخارج. كان الكلب خائفاً ينتظر عند نهاية الطريق مثل طفل يشاهد فيلم رعب للكبار فقط. رائحة البارود تملأ المكان، والخراب عنوان المدينة. نظرت يميناً وشمالاً ثم هممت بالمغادرة، لكن طلقةً مرّت قرب أذني اليمنى جعلتني أتسمّر في مكاني.

  ـ مكانَك، هتف أحدهم.

 استدرت لأجد ثلاثة ملثمين يصوّبون رشّاشاتهم نحوي.

 ـ تشهّدْ على روحك يا سكّير.

يا إلهي! كيف أقنع هؤلاء السفلة بأنّي كنت أشرب الشاي في لقاء عمل مع صاحب الحانة؟! وأنّي، رغم اجتيازي عتبة الثانية والثلاثين من عمري، ما زلت لم أتعرّف على طعم الخمر بعد؟!

 قلت:

 ـ والله، مو سكّير.

 فأطلق أحد الملثمين رصاصة على ساقي اليمنى وهو يردد: “لا تقسم بالله يا فاسق“. ثم أصاب فخذي الأيسر بأخرى، فأمسيت غير قادر على الحركة. التفتّ نحو الكلب حينذاك في نظرة كانت أقرب إلى الاستعطاف، لكنه لم يقدر على فعل شيء سوى النباح. كان ينبح بلا توقف، فأطلق الملثّم خرطوشاً في السماء لإخافته، ثم وجّه الرشّاش نحوي وأرسل رصاصة استقرّت في جبهتي. شعرت بماء بارد ينزل على عينَيّ ثم كتلة حديدية تهبط فوق صدري. لقد أصاب الملثّم اللافتة الضوئية ليُسقطها فوقي، ويرحل مع رفاقه.

 كنت بلا ظلّ أراقب الكلب وهو يجرّ الجثة من تحت اللافتة. لقد تمكن أخيراً من إخراجها. كانت الجثة لشاب ثلاثيني يرتدي معطفاً رمادياً طويلاً. فيها ثلاث إصابات، واحدة في الساق اليمنى، وأخرى في الفخذ الأيسر، وثالثة في الجبهة.

 سحل الكلب الجثة نحو الحديقة. نبح عالياً ثم دفعها في خندق صغير وبدأ يحثو عليها التراب. لقد كان كلباً رحيماً تمنّيت لو أنّي أستطيع الانتظار ريثما أطعمه اللحم المنقّع بالنبيذ، لكنّي مضطرّ للالتحاق بجثتي.. أراكم في جهنم.

…………….

*من كتاب صانع الحلوى.

مقالات من نفس القسم