جنة مي التلمساني وأسوارها.. يوميات السفر والحرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 48
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد الخالق

لم تكتب مي التلمساني مقدمة لكتابها الذي يضم مجموعة من اليوميات التي نشرتها بجريدة “روزاليوسف” اليومية في الفترة من أغسطس 2007 وحتي سبتمبر 2009، واكتفت بكلمة قليلة علي هامش غلافه الخلفي، قالت فيها: “مازلت أرحل عكس المواسم … عكس هجرة الطيور، يوما ما، سينضبط الإيقاع. الأسوار عالية حيثما وليت وجهي، حتي في المكان الذي كنت أظنه جنة. وكأن الظنون أيضا تتغير مع المواسم. ليس ثمة جنة ونار في مسألة الهجرة إذن. هناك فقط تلك الأسوار. كلما علا واحد حملت معولي وفتحت طاقة، نافذة، فجوة، شرخا، طريقا، أطير وأعود من نفس الفتحة، فالعبور حركة دائمة التجدد. هناك لم تعد الجنة جنة. وهناك لم يعد الجحيم جحيما. المسألة مسألة وقت تندلع فيه النيران بين أغصان الشجر الوارفة، وآخر تنزل فيه أنهار العسل علي الجمرات تخمدها إلي حين..”

مهدتني هذه الكلمات إلي حالات عدة يعيشها قارئ اليوميات، منها: “الرحيل عبر المجهول” و”زيارات الدهشة مع كل خطوة علي أرض جديدة” و”محاولات الوجود وتحدي تشوهات الواقع” و”التمرد علي المفروض” و”نفي المطلق” و”الجمع بين المتناقضات”، وتمنيت أن تزيد أسوارها عددا وارتفاعا، حتي تواصل تحايلها الإبداعي عليها، مرة بالطيران فوقها ومرة باختراقها، كل هذه الحالات وغيرها في هذه الكلمات القليلة، التي تحمل نفحات صوفية بداية من الرحيل المنفرد عكس الاتجاه وانتهاء بسكب قطرات العسل علي جمرات الجحيم.

ثلاثون “يومية” في الكتاب الصادر عن دار “شرقيات”، -رغم خصوصيتها- يمكن أن تجد بها رصدا هادئا لمشاهد متناثرة بين مجتمعين يقفان علي طرفي نقيض، هو نفسه التناقض بين مجتمعي الكاتبة اللذين تنتمي لهما “الشرقي” بحكم المولد والنشأة و”الغربي” بحكم الإقامة والهجرة.

رغم أحد عشر عاما علي الهجرة، لا تزال سطور اليوميات تنضح بمرارة الغربة وقساوتها، ورغم الجوانب الإيجابية العديدة التي حرصت علي رصدها لصالح مجتمعها الجديد، مقابل سلبيات الشرق، لا تزال روحها معلقة في الهواء في المسافة بين مصر وكندا، وهو ما كشفته بصراحة تقريرية في يومية “الهجرة” التي قالت في بدايتها: “انتهي العام الواحد عشر للهجرة وبدأ عام جديد تختلط فيه أحاسيس اليأس والأمل، اليأس من عودة مطمئنة والأمل في التعود ولو مؤقتا علي الحياة في مكان والحلم بمكان غيره بعيد”.

وببساطة موقف شخصي، ينتبه له البعيد أكثر ممن يعيشه يوميا، تحدثت عن تغير اجتماعي في مصر، لم ننتبه له إلا عندما وجدنا أنفسنا وقد أصبحت مرتدية الحجاب تنظر لغير المحجبة باعتبارها متبرجة، ومرتدية الخمار تنظر للمحجبة باعتبارها متبرجة، وأخيرا مرتدية النقاب تنظر لذات الخمار باعتبارها متبرجة، في يومية “مايوه غير شرعي”، رصدت مي بنعومة شديدة، أزمة أيديولوجية يعيشها الشعب المصري حاليا بجميع طبقاته، وكأنه يسير للخلف منذ ثلاثين عاما وهو لا يدري، إلي أن انتبه فجأة ليجد ملائكة الرحمة في المستشفيات يرتدين النقاب أمام مرضاهم.

للسفر حضور قوي في اليوميات، سواء من خلال الحديث عن المدن والأماكن التي تزورها، أو الحديث عن الطائرات وصالات السفر والوصول، وفي يومية بعنوان “مطارات” كشفت مي عن عدم استمتاعها بل والانزعاج من المطارات والأوقات التي تقضيها بها، رغم ما قد يجود به مثل هذا الجو من لقاء عابر تستمتع بعه، أو تستمع فيه إلي كلمة تترك فيك أثرا ما سواء سلبيا أو إيجابيا، وهي كلها أشياء إيجابية، ورغم أنها قدمت عددا من الطرق التي يتحايل بها المسافرون علي الوقت الطويل الذي يقضونه في السفر، إلا أنها لم تجد سلوي في أي من هذه الطرق سواء النوم أو القراءة أو التسوق، واكتفت برصد دقيق للوقت الذي يستغرقه السفر من كندا إلي القاهرة، وعد الساعات التي تمر عليها بدءا من خروجها من منزلها بكندا وحتي وصولها لمنزل والدتها بمصر الجديدة، ووجدت أثناء قراءتي لهذه اليومية أن هذا الشعور طبيعي جدا بالنسبة للصورة التي تشكلت لدي عن تشتتها بين مكانين تحن إلي أحدهما ولا تستطيع العيش به، ويكفي قراءة هذه السطور في ختام اليومية التي قالت فيها: “بين النقيضين منطقة وسيطة تتلخص فيها هواجس السفر، منطقة انتقالية منها تنطلق الحركة وإليها يعود المسافر لكي يعاود الرحلة …. لا شيء ينفع، ولا التسوق ولا الطعام ولا القراءة، لا شيء يخفف من وطأة الساعات سوي الحلم بكتابة رواية يوما ما- عن رجل أحب المطارات وتاه فيها”.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم