شيرين فتحي
أخي جميل كان أجمل شخصٍ رأيته في حياتي. لم يكن الأجمل لملاحة وجهه, ولا للون بشرته الأبيض الصافي كالحليب ولا لعينه العسلية الواسعة والمغطاة برموش وحواجب سوداء وكثيفة. ولكن لجمال طبعه وحنانه الزائد علينا. لم يخرج من بطن أمي سوى جميل وأنا. حاولت أمي كثيرًا أن تنجب بعدي, أخذها أبي إلى أكثر من طبيب ولكن في كل مرة ينتهي الحمل ويتدفق الدم منها بلا سبب.
كثيرًا ما أقسمت أمي أن كل دم تدفق منها هو طفل لم يكتمل. حتى أنني عندما كبرت ورأيت الدم لأول مرة ظننته أحد أشقائي ولكنه قد أخطأ وتسلل إليّ بدلا منها في تلك المرة. كانت دائما تخبرنا أنَّ لنا عددًا لانهائي من الأشقاء.. تحكي عنهم طوال الوقت. ولأني لم أر منهم سوى جميل فقد أحببته بقدر حبي لكل هؤلاء الصغار الذين ضاعوا منّا.
لم يمل أبي أبدًا من اللف معها على الأطباء. ولكن حين انقطع الدم عنها نهائيا احتضنها وطلب منها أن تحمدَ ربها على نعمه فانصاعت. وكأن القدر أراد أن يريحها من هذا الوجع فانقطع عنها الدم مبكرًا, كان هذا في العام الذي أتمت فيه الأربعين.
بمرور الأيام تاهت أمي منا في طلباتنا وطلبات المنزل التي لاتنتهي من طبخ وكنس وغسيل وشراء الاغراض من السوق وكي الملابس حتى اعتقدتُ أنَّ حياتنا تسير كباقي الحيوات بطريقة عادية, ولكني كلما كنت أدقق في عيونها العسلية كنت ألمح شيئا ناقصا في روحها. كان هذا الشيء الناقص لا يخبو إلا حين نقوم بتغيير طلاء المنزل,هذا التغيير الجديد يحدث في بداية كل عام ميلادي, في الموعد المحدد كنا نضطر لفك الأسرَّة وتجميع أثاث المنزل كله في غرفةٍ واحدة.نظل نفترش الأض لعدةأيام,وذلك حتى ينتهي النقاش وتجف ألوان الحوائط الجديدة.أحيانا كنت أشعر بالغضب من أبي لأنه لا يعارضها ولا حتى يحاول أن يثنيهاعن تلك المشقة المتكررة. ولكني لما كبرت وبدأت ألاحظ اعتدال مزاج أمي وعودة البريق الناقص لعينيها في تلك الأيام من كل عامأصبحتُ أشعر بالرضا لأن أبي لم يعارضها قط.
لم تكن سعادة أمي بالألوان الجديدة تدوم كثيرا, ربمالشهر واحدٍ فقط على الأكثر ولكن السعادة الأكبر لأبي وكأنه يقول :يكفيني منها شهرٌ كل عام.
لم يدرك أنها في المرة التي شعرت فيها بأنها قد استنفذت كل درجات الألوان التي تعرفها, ولم يعثر لها عمال الطلاء على لونٍ جديدٍ للدهان سوف تبدأ في الذبول حتى تموت.
قبل أن ترحل أمي بعام واحد دخلت علينا في مرة وهي تحمل كراتين ممتلئة عن آخرها ببرطمانات زجاجية. كانت تلك البرطمانات متفاوتة في الأحجام والأشكال. لم أتخيل أن الطبيب احتفظ لها بكل الأجنة التي لم تتمكن من الالتصاق جيدا برحمها, وجمعهم لها في تلك البرطمانات.
قضت أمي عدة أيام في حجرتها منعزلة مع برطماناتها أو صغارها كما كانت تطلق عليهم… لعدة أيام لا تأكل ولا تتحدث مع أحد. بينما أبي يطمئن عليها عن بعد ويطلب مني ألا أزعجها, حتى خرجت هي وطلبت مني أن أدخل معها في مرة لتعرِّفني على أشقائي الصغار. كانت قد لونت كل برطمان بلون من بقايا الدهانات المستعملة. وألصقت بطاقة على كل برطمان كتبت عليها تاريخًا محددًا, وحددت نوعه, وأطلقت عليه اسما حسب درجة اللون التي اختارتها لتلون به برطمانه الشفاف. فمثلا كان هذا أخي الأزرق الفاتح, وهذا أخي البنفسجي وتلك شقيقتي الوردية وكانت هناك القرمزية والأرجوانية والعديد والعديد من الإخوة والأخوات.
الغريب أن أصغر الأشقاء كان يحمل نفس لون الحائط الحاليّ!!
غرقت أمي في الألوان وغرق أبي في عمله ليوفر لها ميزانية تغيير الطلاء المعهودة.
لكل هذا لم أعرف أحدا في هذا العالم إلا جميل. كان هوأبي وأمي وكنتُ أمه وأبيه. كان يصحبني معه في فسح كثيرة داخل بلدتنا وخارجها. ولأنه يعرف حبي للموالد فلم يسمح لأي مولد في قريتنا أو حتىى في قرية مجاورة أن يفوتنا. كان يمسك يدي ويساعدني على تصويب البندقية في لعبة التصويب ونحصل معا على الهدية التي يتركها لي دوما سواء كنتُ أنا من صوّب أم هو. يركب إلى جواري في مراجيح الموالد الحديدية ونظل نعلو ونهبط معا في سعادة.
أحيانا كنا نمشي الى تلك القرى وأحيانا ننحشر في عربات بدائية منخفضة السقف كصندوق مغلق علينا إلا من فتحات بسيطة تكاد تكفينا لإلتقاط انفاسنا بصعوبة. وتزداد متعتنا إذا ما كان لوجهتنا محطة قطار قريبة, فهذا يعني أننا سنسافر بالقطار. كان القطار أكثر راحة من السيارات المغلقة على ركابها كالصناديق.. لسرعته وصوته العالي, هيبة تثير متعتي وفضولي للفرجة على بلاد وقرى جديدة, فشبابيكه الكبيرة أوسع وأفضل بكثير من تلك الفتحات الضيقة الموجودة في العربات الاخرى والتي غالبًا لا تكون في مستوى الأعين فلا تسمح لنا بأية رؤية.
في القطار يخفض جميل كتفه قليلا لأستريح عليه. في كل مرة سندتُ فيها رأسي على كتفه كنتُ أشعر أن كتف جميل هو أجمل مافيه, بوسعي أن أنام عليه لساعات دون أن يمل أو أن يتحرك حتى, كي لا يقلقني. كنت أشعر أن كتفه مهيأ لرأسي تماما, كنا كقطعتي بازل تكتملان بدخول القطع البارزة الى التجاويف المناسبة لها.
كان يأخذني إلى المدينة الكبيرة فنتجول في شوارعها, يلفح وجوهنا الصهد الذي لا تحبسه الأشجار ولا حتى تلك البنايات المرتفعة. في كل مرة زرنا فيها المدينة يأخذني لأحد أكشاك الحلوى.. يشتري لنا زجاجتين من المياه الغازية المثلجة لتهدئ احساسنا قليلا بالحرارة, وبعدها يصر على أن يشتري لي قطعة من الشيكولاته, تلك الشيكولاته مرتفعة الثمن والتي لا تباع في بلدتنا. في كل مره كان البائع يبتسم لنا ويغمز بعينيه ل جميل ظنا منه أننا صديقين جمعهما حبٌّ طفولي.. كنا نستمتع بخداع هؤلاء الباعة ولم نخبر أحدًامنهم أبًدا أننا شقيقين فلم تكن بيننا ملامح متشابهة.ورث جميل عين أمي العسلية وشعر أبي الأسود, بينما أخذت أنا من أمي شعرها البني وبشرة أبي القمحية..
في كل مرة زرنا فيها المدينة كان جميل يقول: أنت أجمل بنت رأيتها في المدينة اليوم.
تزوج أخي في المدينة وأنجب طفلتين تشبهانني. أصبح البيت كئيبًا في غيابه. أصبحتُ أنتظر زياراتهم لنا بفارغ الصبر أو أنتظر أن ترسلني أمي إليهم بصينية أرز معمر أو حلة محشي أو كسكسي.. تلك الأطعمة التي لا نحتمل أن نأكل منها ولا يتذوقها جميل…
بمرور الوقت أصبح جميل بعيدًا والبنتين كبرتا, ولاحظت أنهما صارتا أكثر حذرا في التعامل معي. تشي عيونها بكلماتٍ مُلقنَة.. فبدأتُ ألتزم غرفتي كل زيارة. قلّت الزيارات كثيرا بعد رحيل أمي. دفنها أبي ووضع إلى جوارها كل البرطمانات الملونة. كان قد تردد قبلها, هل يفرغ تلك البرطمانات من سائل الفورمالين الذي تسبح فيه تلك الأجنة الصغيرة ويجمعها كلها في لفافة واحدة؟ أم يتركها كما هي؟. في النهاية قرر أن يضعها كما تركتها أمي, كما لونتها وكتبت عليها ,لم يغير فيها أي شيء.
كانت أمي تأتيني كثيرًا في المنام. في كل مرة تصطحب معها برطمانين أو أكثر. تسألني عن حالي وتحكي عن أحوالها وقبل نهاية الحلم بقليل تفتح غطاء البرطمان, لتتحول النطفة الصغيرة التي بلا ملامح إلى طفلٍ جميلٍ كامل ومكتمل البنية.
تنظر لي بعدها في زهو وتقول: اتفرجي على الجمال….
كان الأطفال ينضجون أمامي وتتعالى ضحكاتهم مع ضحكات أمي التي تحملهم في نهاية كل حلم وتمضي.
تعلمتُ أن أزور المدينة وحدي. أن أركب المواصلات بلا رفيق. أن أسند رأسي على زجاج نافذة الميكروباص أو القطار وأنام.
في آخر زيارة تجولتُ في الشوارع الواسعة التي أعرفها.. لفحني الصهد الذي لا تحوشه العمارات الكبيرة ولا الأشجار. توقفتُ عند أحد أكشاك الحلوى ,ابتعتُ زجاجةً من المياه الغازية, جلست على كرسي بلاستيكي وضعه البائع إلى جوار الكشك. انتهيت منها وأعطيته النقود, ابتسم حين طلبتُ منه قطعة من الشيكولاته التي أحبها… أعطاها لي وتمتم ببعض الكلمات في محاولةٍ بائسةٍ منه لمغازلتي قائلًا: أنتِ أجمل عانس في مدينتنا اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة وروائية مصرية، والقصة من مجموعة “رأس مستعمل للبيع” المرشحة في القائمة الطويلة لجائزة ساويرس 2021- صادرة عن دار الهالة