الفتى الطائر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد المنعم رمضان

  المشهد غريب للغاية, أرى السماء ساطعة فوقى وضوء الشمس يغمرنى والأرض بعيدة عنى, لا تمسسها قدمى .. موقفى سئ للغاية فأنا معلق فى الهواء, لست معلقا على مشانق موتى, ولكن غريب الأمر أننى معلق فى شرفة منزل , بلكونه, وأغلب الظن أنه ليس منزلنا لأنه منزل علوى, كما لو أنها ناطحة سحاب فى إحدى الحوارى, فبالرغم من أنه ليس منزلنا إلا أنه شارعنا الضيق الصاخب الملئ عن آخره بالورش والعمال والصنايعيه والأطفال يلعبون الكرة والأمهات اللاتى يحدثن بعضهن عبر البلكونات. يتدلى من تلك البلكونة شئ ما, قد تكون ملاءة أو قطعة من الملابس, شئ من هذا القبيل, شئ ما مصنوع من القماش, لا أستطيع أن أحدد هويته وأنا معلق هكذا فى الهواء. فأنا ممسك بأطراف هذا المخلوق القماشى المتدلى من شرفة هذا البيت العلوى, ويبدو أن تلك القماشة ثابتة فى شئ ما داخل الشرفة وهو ما يجعلها تحملنى ولا تنزلق من بين أطراف أصابعى... ومن حسن حظى التعيس, أن تلك الخرقة أو القماشة متماسكة نوعا ما, لم تكن مقطعة أو مهربدة فتحملنى معها إلى أسفل سافلين...

يدى تتصبب عرقا, والعرق يتساقط على وجهى, عينى تنظر عاليا نحو سماء مشرقة, وكأنه ليس يوم موتى, وقدمى تتحرك فى الفضاء باحثة عن قطعة أرض تتلمسها, مازلت أتشبث فى تلك القماشة, ويدى تنزلق رويدا رويدا, وأعصابى تنفلت من زمامها, وعيناي تطلبان العون ولكن ما من معين… لا أسمع أصوات المارة فى الشارع, ليس فقط لأن الشارع بعيد جدا عن موقعى الفضائى ولكن أيضا لأنى لست بحاجه أن أسمعهم فى هذا التوقيت بالذات. كنت دائما أهتم بكلام الناس وحكاياتهم السخيفة التافهة التى كانت تمثل بالنسبة لى الحكايا الأكثر إمتاعا والأكثر أهمية , كما كانت النميمة هى إحدى هواياتى المفضلة تماما مثل النساء. أما الآن فأنا لا أسمع إلا شيئا واحدا, صوت تمزق الخرقة من بين يدى, فهى لا تحتمل جسدى الممتلئ عن آخره. طالما نصحنى والدي أن أكون رشيقا فذلك يحفظ الصحة ويطيل العمر ولكنى لم أهتم قط.الآن فقط علمت قيمة تلك النصيحة, لو كنت أقل وزنا من حالى لظللت معلقا فترة أطول فى تلك القماشة.

خيوط الخرقة تتفكك من بين يدى والخرقة تتهتك أمام عينى . لم أكن أعلم يوما ما أن تهتك خرقة بالية مثل تلك سوف يكون مشهدا مؤسفا مؤلما ومميتا إلى هذا الحد.

فلتت يدى…

فلتت يدى وسقطت من أعلى الكون إلى أسفله, أنفتحتا عيناى عن آخرهما لأرى كل شئ ممكنا فى تلك اللحظات , فرأيت شرفات منازل كل الجيران ورأيت وجوه المشاهدين فى الشرفات ونظرات الشفقة فى أعينهم. رأيت أسلاك الكهرباء والتليفون والمواسير والجدران ,رأيت أشياءا لم  أهتم أن أنظر إليها أبدا. فأنا لم أعتد النظر إلى أعلى وقضيت معظم حياتى ناظرا إلى الأمام, أو مغلقا عينى من الأصل… كان الوقت طويلا جدا ما بين سقوطى إلى حيث هبوطى. أحسست أننى أحيا حياة أخرى طويلة جدا. جاءنى إحساس غامض أن نهاياتى لم تأت بعد وأن حياتى سوف تمتد قليلا  أو كثيرا, لا أعلم حقا متى سوف أموت ولكنى أظن أنه ليس الآن.

لم اشعر طوال حياتى بقسوة لطمات الهواء مثلما اشعر بها الآن… كم تعانى تلك الطيور الصغيرة الرقيقة, رفيقاتى فى الجوار. لم ألحظ أبدا أنها رائعة الجمال قبل الآن. أشعر أنها تنظر إلى كما لو كانت تود أن تنقذنى وتحملنى على جناحيها إلى حيث الأمان, يبدو أنها مخلوق طيب لم يتسن لى معرفته من قبل.

أعتقد أننى اقتربت من الأرض , فحرارتها تفوق حرارة الشمس, اشعر بلهيب يحرق جسدى وأنفاس حارة تتجول من حولى. هل يا ترى  هناك أحد ينتظرنى فى الأسفل ليستقبلنى على ملاءة بيضاء مثلما يحدث فى الأفلام التى أستغرقت حياتى فى مشاهدتها, أم أن أحدا لا يهتم بحياتى سواى… أخذنى تفكيرى فى لحظاتى التى قد تكون الأخيرة لى فوق الأرض, عمن سيفرح بنهاية عمرى ومن سيحزننى فراقه ومن سيحزنه فراقى ومن أتمنى ان يلقانى ويكون فى استقبالى… أفكار حمقاء, ولكن حياتى لم تسمح لى أبدا بأن فى التطرق إليها. لقد كنت مشغولا جدا بالتفكير فى أشياء أكثر حماقة.

يوم جديد, شمس مشرقة, بالتأكيد هو ليس يوم موتى أو إعتلائى المشانق, أغسل وجهى الملئ بآثار الرحلة الطويلة وانظر إلى ساعتى الغالية, وقبل أن أعرف التوقيت, ألاحظ آثار الخدش الذى أصاب واجهتها…انتبه أننى وكعادتى متأخر جدا عن عملى, أسرع فى تجهيز نفسى من أجل الخروج إلى ذلك الشارع الذى كنت أطير في سمائه منذ ثوان معدودات… نزلت إلى أرض الشارع, أنظر فوقى, اتأمل تلك الشرفات وأسلاك الكهرباء والتليفون والمواسير والجدران… ولكنى ما ألبث أن أنظر أمامى, وأسرع فى خطواتى نحو العمل كما اعتدت دائما أن أفعل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اللوحة للفنان: عمر جهان

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون