ثلاث قصص

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد المسعودي

أبو بكر يعبر البحر

“.. اسمعي يا أختي.. اسمعي، فقط.. أرجوك لا تتكلمي.. دعيني أكلمك.. اتركيني أحك لك ما حصل..  أحسست في ذلك اليوم برغبة ملحاحة في البكاء.. رغبة لم أجد لها تفسيرا.. رغبة لم أستطع كبحها.. بدا أبو بكر أمام عيني في صورته الجميلة، بقامته الفارعة، وشعره المنساب، والكاميرا معلقة في عنقه، فازداد شهيقي.. كنت أفكر في  غيابه الذي امتد أكثر من خمسة أيام لم نعرف عنه خلالها شيئا، وهو حينها كان يصارع موج البحر، يواجه الموت المحتم.. يا حبيبي يا أبا بكر..  كان اليوم يوم أربعاء.. عند الظهيرة اجتاحتني حالة حزن شديدة.. وجدت دموعي تنساب حارة على وجنتي.. وفجأة صرت أبكي بحرقة، وأنا أستحضر لحظاتي الجميلة مع ابن أختي.. مع أبي بكر الذي شد عن الطوق وأصبح فتى وسيما جميلا يملأ العين ويفتن الفتيات بسمرته الآسرة، وطوله الفارع، وشعره الأسود الذي ينساب على كتفيه. كنت أتساءل: هل يا ترى ما يزال حيا يرزق؟ أين اختفى هذه الأيام الخمسة؟ ماذا حصل له؟

لم يفلح بحثنا عنه في شوارع طنجة ومستشفياتها ومآوي جانحيها ومخافر شرطتها ومشرحتها بمستشفيات سوق البقر ومحمد الخامس ومحمد السادس عن شيء كما تعرفين. وها هو الخبر اليقين يأتي أخيرا. اتصل أحدهم برقمي الهاتفي، يا أختي، قبل قليل وأنا على متن هذا القطار الذي غادر الدار البيضاء، متجها نحو طنجة، ليطلعني على أن حبيبي أبا بكر قد أمسكت به دورية البحرية الملكية، رفقة ثلاثة مراهقين آخرين ورجل كهل وهم على متن قارب مطاطي (زودياك) يحاولون عبور مضيق جبل طارق نحو الضفة الأخرى، غير أن التيار حملهم بعيدا نحو الجنوب الغربي من طنجة. وأن أبا بكر يوجد في مخفر للشرطة بمدينة العرائش.. يا حبيبي يا ابن أختي.. نجوتَ من موت محقق في اللحظة التي كنت أبكيك فيها بدموع قلبي.. إحساسي بك وأنت تصارع أمواج الفناء جعلني أنشج في هستيرية لفتت نظر من كان حولي في العمل حينها. تراني كنت أبكيك دون أن أدري هول ما تقاسيه وسط صخب المحيط وعنفه. فرحت بخبر نجاتك.. وبخبر العثور عليك أخيرا.. وأنتِ يا أختي لا تلوميه على ما فعل.. لا تحمليه كل المسؤولية.. هو طفل صغير في بداية مراهقته على الرغم من طوله وشكله.. العني من غرر به وتابعيه أمام القضاء.. تابعي من شجعه على الهجرة السرية.. من زين له هذا الفعل الشنيع.. آه لو أعرف المجرم الذي أغراه بالعبور لأمسكت بخناقه.. آه يا حبيبي يا ابن أختي.. افرحي الآن يا أختي.. إن أبا بكر قد عاد.. إنه حي.. وهذا هو المهم.. هذا هو المهم.. اليوم عليك أن تذهبي إلى العرائش لرؤيته.. أنا سألحق بكم هذا اليوم.. أنا في طريقي بعدما قضيت شغلي بالدار البيضاء.. من أجل أبي بكر يهون كل عذاب.. اليوم سأذهب إلى العرائش من أجل حبيبي أبي بكر.. سألتحق بكم حتى ولو بعد منصف الليل.. آه يا ابن أختي.. آه..”.

كنت أستمع إلى هذا الخطاب الباكي الفاجع الذي استرسلتْ في إلقائه فتاة في حوالي الثلاثينات من عمرها عبر الهاتف تخاطب به أختها. كنت في “قمرة” القطار التي جمعتنا أنا وهي وثلاثة ركاب آخرين. كان القطار قد انطلق من محطة مدينة الدار البيضاء “كازا فوايجور”، متجها نحو طنجة، اجتزنا مدينة الرباط حينما رن هاتفها في البداية، خرجتْ إلى الممر، وشرعت تستمع إلى المتصل، وتستفسر في لهفة، ولما عادت إلى مكانها، ربطت الاتصال بأختها، وانطلقت في منولوجها الحزين.. الفرح.. المضطرب.. ولما انتهت نظرت حولها في شبه ذهول، ثم أطرقت برأسها تخفي دموعا كانت تنساب من عينيها. ساد المكان سكون عجيب، وكأن جميع من بالقمرة يشاطر الفتاة ألمها أو توزعها بين الفرحة بمعرفة مكان ابن أختها، وبين حزنها السابق عليه وخوفها من ضياعه إلى الأبد. كسر الصمت المطبق من حولنا كهل يرتدي لباسا رياضيا، و”كسكيتا” أسود اللون:

-حمدا لله على سلامة ابن أختك.. الحمد لله أنكم عرفتم مكانه.. وسيكون الأمر خيرا إن شاء الله..

هنأها كل من بالقمرة بنجاة الصبي ابن أختها. وبعد فترة وجيزة رفعت الفتاة رأسها، وأخرجت من حقيبتها الجلدية بعض ورق “كلينكس”. مسحت دموعها، ثم رسمت على شفتيها ابتسامة وشت ببعض ما يعتمل في دواخلها من أسى، وقالت مخاطبة الجميع:

-شكرا لكم.. فعلا الآن اطمأن قلبنا عليه.. عرفنا على الأقل أين هو.. لكن هناك إجراءات مطولة.. وعرض على المحكمة.. ولن يطلق سراحه بسرعة حتى نعاني أكثر مما عانينا.. يا رب أين كان مكتوبا لنا كل هذا؟!

قال الرجل الكهل مواسيا الفتاة:

-كل شيء سيكون خيرا إن شاء الله.. خذي رقمي الهاتفي.. لي معارف في الكوميسارية سنطرال بالعرائش.. سأتدبر معهم أمر ابن أختك بعد غد وعند إنهاء بعض أشغالي الضرورية بطنجة.. ربما لن يعرض حتى على المحكمة إن كان قاصرا.. اطمئني..

أملى الرجل عليها رقم هاتفه الذي سجلته في ذاكرة هاتفها، وقالت له:

-خذ رقمي حتى تعرفني حينما سأتصل بك..

ثم سردت عليه رقم هاتفها. وأضافت، وقد عادت إليها بعض حيويتها، وإشعاع ابتسامتها:

-اكتب اسمي أيضا: سليمة..

-أوكي.. سليمة.. اسم جميل.. (قال الرجل).. شوفتي.. إن شاء الله ستخرج الجُرة سليمة.. (ههههه).

وأطلق ضحكة عالية منشرحة، جعلت كل من في القمرة يشاركه الضحك، ويخرج من حالة السكون التي حلت بالمكان من قبل. وانفتحت شهية الركاب الآخرين للحديث. وهكذا كان عبور أبي بكر مدخلا للحكي عن ظاهرة “الحريك”، ومآسي الأسر المغربية بسببها. وقد أدلى كل بدلوه. ومضت الأحاديث في شعاب مختلفة حتى وصل القطار محطة طنجة المدينة، وهناك نزل أغلب من كان بهذه القمرة، ومنهم الفتاة التي كانت تحمل حقيبتها الجلدية النسائية، وحقيبة أخرى خفيفة من حقائب السفر تجرها وراءها، بينما ساعدناها جميعا على إنزال صندوقين كرتونيين ثقيلين، أمرت حمالا بوضعهما على كروسة، وأن يتبعها. وكان يمضي معها الرجل الكهل وهو يحادثها وتحادثه نحو مخرج محطة القطار..

ولأيام عديدة ظللت أفكر في قصة الصبي أبي بكر الذي أراد العبور إلى إسبانيا.. وفي حوادث كثيرة مما سمعتها هنا وهناك عن صغار وكبار ماتوا وسط لجج البحر، وتغذت بهم الأسماك، ولم تكتب لهم النجاة كما كتبت للصبي، ولم تكن لهم خالات يحببنهم مثل حب خالته سليمة.. ولكن كان لهم آباء وأمهات وإخوة وأخوات يتفجعون على موتهم، ويحسون بفداحة الغياب والموت المجاني. ووددت أن أعرف ماذا تحقق من مساعي الرجل الكهل. وماذا جرى للصبي في كوميسارية العرائش؟

غير أن ذلك لم يكن ممكنا لأني عرفتهما، فقط، عبر سفري بالقطار. لكني تعزيت عن ذلك بالمنولوج المضطرب الفرح الحزين الذي سجلته ذاكرتي كاملا وسليمة تخاطب أختها في الهاتف، وأنتج هذه القصة، وحمدت الله أن نجا الصبي من الهلاك، وتمنيت أن تنتهي ظاهرة قوارب الموت من حياتنا.. 

 

العسكري والدراجة

         كان الطفل الصغير –الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره- يمضي بدراجته الصغيرة بين ممرات الحديقة المجاورة لبيتهم، لاهيا لاعبا. كان المساء دافئا جميلا. الطيور شرعت تؤوب إلى مهاجعها بين غصون الأشجار. وهو يدور بين جنبات المكان غافلا عن كل شيء، وإذا بظل يلقي عليه لونه الكالح، ويمسك بمقود الدراجة. رفع الطفل عينيه وإذا به “شبكوني”/ (عسكري من القوات المساعدة) طالما طارده وزملاءه أثناء لعبهم الكرة، ومزق كورهم التي يشترونها، يأمره بصوته الأجش الغليظ:

         -انزل عن البشكليتة ( انزل عن الدراجة).

         -علاش.. هذي بشكليتة ديالي.. (لماذا.. هذه دراجتي)

         -عندك لوراق ديالها.. (هل عندك أوراقها)

         نظر الصبي في ارتباك إلى الرجل الغليظ الوجه، غليظ الرقبة، الجاحظ العينين، في لباسه الترابي الداكن، وحرك رأسه يمينا وشمالا دلالة النفي. قال العسكري/”شبكوني” بصوته القروي القبيح:

         -هبط من البشكليتة.. (انزل عن الدراجة)

         -لا.. علاش عنهبط منها؟ (لماذا سأنزل عن الدراجة)

         -عَندِّها نلفوريان.. حيتاش ما عندكش لوراق ديالها.. قلتلك اهبط.. (سآخذها إلى مرآب البلدية.. لأنك لا تملك أوراقها.. قلت لك انزل..)

         -هذي بشكليتي.. جابها لي بابا من جبلطار.. وانت بغي تدهالي.. (هذه دراجتي.. اشتراها لي أبي من جبل طارق.. وأنت تريد أخذها مني..)

         – وْعاد بشكليتة مْهربة.. ماجا من جبلطار.. الله.. الله.. (وأيضا دراجة مهربة.. جيء بها من جبل طارق.. الله.. الله..)

         جر العسكري الطفل ورفعه عنوة عن الدراجة، وألقى به إلى الأرض. صاح الصغير:

         -هاذي بشكليتي.. مهربت بها نحاد.. مسرقتها نتواحد.. (هذه دراجتي.. لم آخذها من أحد.. ولم أسرقها)

         -هاذي بشكليتة مْهربة.. وممنوع تبقى شي حاجة مْهربة ف لمدينة.. هذي أوامر سيدي القايد.. (هذه دراجة مهربة.. وممنوع بقاء أي شيء مهرب في المدينة.. هذه أوامر السيد القايد..)

ركله العسكري ركلة قوية في مؤخرته. ثم جر الدراجة الصغيرة مغادرا الحديقة، بينما ظل الطفل في مكانه ذاهلا يفكر كيف سيقنع والده أن “شبكوني” هو الذي سرق دراجته.

 

 

مات ضاحكا

         كان الشاطئ فارغا إلا من رأسين أشقرين ظهرا في البعيد.. كانا رجلا وامرأة.. الكاميرا ترصد حركاتهما هناك قرب نهاية المد ومكان انطفاء عنفوان الموج. ابتعد الرجل عن المرأة وصار يمضي نحو الرمل اليابس، فإذا بملامحه تتضح وهو يتقدم، كان أشقر الشعر، بلحية صغيرة دائرية مذببة تحيط ذقنه، وعينين زرقاوين لامعتين.. حمل الرجل طفلة صغيرة لا تتجاوز السادسة من عمرها.. كانت الكاميرا ما تزال ترصد حركات الطفلة والرجل وتسجل ضحكهما.. اتجه نحو كرسي من كراسي البحر حيث مدد الطفلة، وألقى على جسدها الأبيض الرهيف فوطة كبيرة حتى يقيها لسعة الشمس.. اقترب من الكاميرا بحيث لم يعد يظهر في كادرها هنيهة.. وسمعت شقشقة قبلة خاطفة على خد.. تبعتها ضحكة طفولية رفيعة الصوت وأخرى صاخبة.. كانت قهقهة الرجل جذلة سعيدة.. عادت الكاميرا ترصد عودته نحو ماء البحر.. كان يلوح بيديه نحو الصغيرة.. وفي اتجاه الكاميرا.. وهو يسير القهقرى.. ولج الشاطئ قليلا.. بينما كانت المرأة تسير متجهة نحو الطفلة.. وفجأة علت صرخة الطفلة.. وتبعتها صرخات المرأة التي كانت تحذر الرجل، وتدعوه إلى ترك الماء، لكن قبل أن ينتبه إلى تحذيرهما كان القرش قد التقمه، ورنين ضحكته ما يزال يتردد في الشاطئ الفارغ، وفي تسجيلات الكاميرا.

 

مقالات من نفس القسم