تأملات في أعمال إبراهيم فرغلي

إبراهيم فرغلي: الرواية الجيدة لا يمكن أن تكون مسلية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 -1-

يبدو إبراهيم فرغلي واعياً وعياً متبصراً في عدد كبير من أعماله بالتزام الموقف "الخيالي" في السرد؛ حيث يترك الباب مفتوحاً لكلا التفسيرين المتناقضين للعمل محل القراءة: فهو يحتمل التفسير "الواقعي"، ويحتمل التفسير "العجائبي" في نفس الوقت، وإلى حين أن يحسم كل قارئ موقفه ويختار أحد التفسيرين، أو لا يختار، يظل النص "خيالياً" بامتياز، ويظل يتمتع بقوة كل ما هو "خيالي"، تلك القوة التي تُستمد من المراوحة بين التفسيرين "الطبيعي" أو "الخرافي".

فإذا كان النص العجائبي  يتميز عن النص الخيالي بالوجود البسيط والمباشر للكائنات الخرافية والعجيبة، وبالظواهر الخارقة والفوقطبيعية كما في (ألف ليلة وليلة) مثلاً، فإن النص الخيالي وحده هو الذي يملك القدرة على التلاعب بإدراك القارئ وإثارة شكوكه، إثارة حيرته بشأن إمكانية تفسيره واقعياً أم خرافياً، فالخيالي يحتمل كلا التفسيرين، ويظل القارئ يتأرجح بين كل منهما كتأرجح سفينة بين المتطرفات.

إن لغز اختفاء روايات نجيب محفوظ (أو تمثال نجيب محفوظ نفسه)، كما يمكن أن يكون حدثاً خارقاً فوقطبيعي، يمكن أيضاً أن يكون طبيعياً، خصوصاً اليوم وفي أيامنا هذه، فمن المؤكد أن هذا ما قد حدث فعلاً في الأراضي الواقعة تحت السيطرة الفعلية لتنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق، أو على الأقل بسبيله إلى الحدوث. إن الفانتازيا عند فرغلي ليست من أجل الفانتازيا في ذاتها، ولكنها طريقته في التعبير عن الواقع في صياغة تلخص كل ما فيه من رعب وتناقضات.

أما حوادث إبلاغ عامة الناس عن ظهور شخصيات نجيب محفوظ ليلاً في الشوارع، فكما يمكن لهذه الإشاعات أن تكون فوقطبيعية إن صدق ما يرويه الناس، يمكن أيضاً أن يكون لها تفسيراً طبيعياً؛ من قبيل توهم الناس لما رأوه، خصوصاً أن ما يُشاهد من قبلهم هو تماهي والتباس بين الشخصيات الروائية لمحفوظ، وبين الممثلات والممثلين الذين قاموا بتمثيل تلك الشخصيات في الأفلام؛ أي أن القارئ يمكن أن يفسر ذلك تفسيراً واقعياً بأنها خيالات متوهمة في عقول الناس بعد اختفاء روايات محفوظ.

كذلك فإن التفسيرين الواقعي والخرافي يظلان يتراوحان بين ما إذا كانت المرأة في قصة (أشباح الحواس) ملبوسة فعلاً أم أنها متوهمة بأنها ملبوسة. أو كما في قصة (مشاهد من أعلى الجدار)، والتي يرويها راو كان برصاً في حياته السابقة، لكن انتقال القارئ العربي جغرافياً إلى الشرق، يحول القصة العجائبية إلى قصة طبيعية في بيئة الحضارات الآسيوية التي تؤمن بالتحول والحلول.

إن هذا التراوح اللايقيني الذي يميز النص الخيالي، واللاحسم، واحتمالية النقيضين: الواقعي والخرافي، هو ما يمنح العمل نضارته مع كل قراءة جديدة، وهو ما يمنح القارئ أيضاً حريته في اختيار الانحياز لأي من البديلين في التفسير: الطبيعي أم العجائبي؟ ويبدو أن الحرية هي القيمة العليا التي نعثر على تجلياتها في كل مكان في أعمال فرغلي، وليس في منهجه السردي فقط.

            -2-      

حرية الاختيار الممنوحة للقارئ في تبني أي من الموقفين المفسرين للأحداث: التفسير الطبيعي، أم فوق الطبيعي، هي صورة من صور الإيمان بقيمة الحرية عند فرغلي، والتي هي ليست الحرية السياسية، أو حرية الصراخ والزعيق، ولا هي العلانية، ولا المشاعية، ولا الفضائحية، ولكنها حرية العزلة والخصوصية؛ حرية النفس الإنسانية في أن تكون هي ذاتها، وأن تعيش بلا عبودية؛ لا للأفكار المسبقة، ولا للعادات والقيم الموروثة التي تثقل على الروح وعلى الجسد. إن اختيار حنين لمواصلة العيش في فرنسا في (جنية في قارورة) هو لأن حريتها الحقيقية هناك، بعيداً عن زيف التعبيرات والحركات والأزياء التي يخدع بها المجتمع التقليدي نفسه.

وفي كثير من الأحيان تفشل الشخصية عند فرغلي فيما نجحت فيه حنين؛ فلا تقدر على تحطيم التابوهات الاجتماعية والدينية التي تمنعها من التعبير عن غرائزها، ومن اكتشاف الجوهر الكامن بداخلها، وتظل المحظورات القيمية والاجتماعية تدفع الإنسان للوقوف وحيداً ومنعزلاً، وتجهض محاولته لولوج عالم التجانس الذي تتحد فيه الأضداد، ويعثر فيه على ذاته الحقيقية.

الجنس نفسه عند فرغلي هو محاولة أخيرة للحماية من عنف وفوضى التابوهات والقيود الاجتماعية والقيمية؛ سعي لحماية الذات من الفناء. إن الإيروتيكا عند فرغلي ليست للإيروتيكا في حد ذاتها ولكنها محاولة للوصول إلى حالة من التجانس، وسعي لحالة من الحرية في أن يكون الإنسان هو نفسه، والتحرر من أغلال الآراء والأحكام القيمية التي تكبله. فالجنس هو نوع من البحث عن الخلاص، وعن البعث من جديد، وفيه تكمن الطاقة الأصيلة والأولية للإنسان؛ ففيه بذرة الحياة، لكن الطاقة الجنسية مقموعة باسم مبادئ مختلفة، بل وتؤدي العفة في قصة (جين بالتونيك)، وقصة (Screw Driver) مثلاً إلى نتائج سلبية ومدمرة للعلاقة بين الحبيبين. إن الشهوة عند فرغلي ليست معصية، بل المعصية هي كبت الشهوة.

الشهوة هي صورة للرغبة في تجاوز الإنسان لذاته والذوبان في الآخر، عله يستطيع أن يحقق كماله وتعالية كإنسان عن طريق التوحد والذوبان، ولحظة الحب هذه هي لحظة التحقق، وهي التجربة الكلية لوصول الذات إلى حقيقتها، عندما يصل الحب نفسه إلى ذروته، وكثيراً ما لا يصل إلى هذه الذروة في أعمال فرغلي، بل وكثيراً ما يصاحب الارتباك ممارسة الشخصيات لتجربة الجنس؛ ذلك الارتباك الناشئ عن توقع الفشل واستشرافه، وكثيراً أيضاً ما يعقب الجنس الإحساس بالمهانة، ثم الهجر، وكأن ثقل التابوهات لا يتيح للنشوة تحققها، فتظل محكومة بالوجل والخوف ولا يعقبها إلا الحزن والفراق.

علاقة الحب لجميلة لا تتحقق في النهاية إلا مع برص سابق ومسخ حالي في (مشاهد من أعلى الجدار)، كما لا تجد الفتاة تحققها الجنسي إلا مع الشيخ العفريت الذي يحاول إخراج الأرواح مع جسدها في (أشباح الحواس). إن أشكال التحقق الجنسي غالباً ما تكون مشوهة في أعمال فرغلي، وهناك خواء يعقبها، وتأنيب للضمير وإحساس بالذنب مثل الذي نجده لدى عماد في (مشاهد من أعلى الجدار) بعد ممارسته للجنس مع جميلة في الطفولة. إن القمع الاجتماعي والقيمي أكبر وأقوى من محاولات الشخصيات للتحرر، وكأن تجارب الجنس هي سلسلة من الإثباتات للعجز، وكثيراً ما تكون أبواب الجنس في أعمال فرغلي مفتوحة للدخول لكن الشخصيات تعود منها كما ينسحب حيوان جُرح جرحاً قاتلاً، وكأن الخلاص الفردي يستحيل في بيئة قيمية معادية، وربما لذلك تدير حنين ظهرها لمصر في (جنية في قارورة).

-3-

إن قوى التحرر الإنساني، وهي نفسها القوى الدافعة للانسجام، والمحافظة على جوهر الإنسان هي: الخيال (المعكوس في الفانتازيا)، والليبدو (المعكوس في الإيروتيكا)، ولا يمكن كتابة تاريخ حقيقي للحرية بشكل منفصل عن تاريخ الخيال وتاريخ الشهوة.

الإيروتيكا في أعمال فرغلي ربما تكون وجهاً لرفض الحياة المعاصرة بشكلها القائم، وربما يكون الاشتهاء عنده نوع من البحث عن دواء ناجع من السأم الوجودي؛ كما لو أننا نسمع صوت أوكتافيوباث: “أنا أشتهي إذن أنا حي”. فالإيروتيكا (كفعل لا يهدف للإنجاب، بل للذة فقط) هي سر من أسرار الحياة التي يحاول بها الإنسان مواجهة التنميط والتوحيد والقولبة والانتظام السطحي السخيف المفروض قسراً بآليات مجتمعية واقتصادية قوية لا سبيل لمغالبتها. إنه الاحتفاء بالحياة وبالإبداع. والإيروتيكا في ممارستها تتطلب الخصوصية، وهي فعل لا يتم إلا داخل جدران أربعة. إن الحرية الحقيقية هي في الخصوصية لا في العلانية والمشاعية والعمومية، ولا يوجد أكبر من حرية ممارسة الجنس بين اثنين في خصوصية وعزلة. يقابل ذلك ممارسات الدعارة، والتي هي ضد الحرية الحقيقية، لإنها وسيلة سهلة من وسائل التسلية الجسدية، يتم فيها إشباع الشهوة بيعاً وشراءًا، ولا تتطلب إلا شخصاً واحداً أنانياً يدفع مقابل الحب، ولذلك تتم في بيوت أشبه بالسجون أو الملاجئ، والفعل نفسه يفتقد لبراءة الإيروتيكا التي تتطلب إرادة شخصين من نوعين مختلفين، وتحمل الدعارة كل تشوهات المجتمع الأبوي؛ فهي عبودية وليست تحرراً لا للجسد ولا للروح.

ولذلك نجد ممارسات الدعارة لا تؤدي إلا إلى الألم أو الموت، كما في قصة (قمر النشوان) على سبيل المثال، أو الشعور بالخواء والصغار كما في (فارق التوقيت)، فالدعارة هي انحراف استغلالي لمبدأ اللذة، في شكل استهلاكي يتحكم به التجار، ويحرفه عن غايته كفعل تحرر وإنارة، وكتجربة سحرية للاكتمال والتوحد. واستغلال الإنسان وانخراطه في الدعارة يجعله أصغراً لا أعلى. وكما أن الإيروتيكا عند فرغلي هي فعل لمقاومة النفاق الديني وحقده على الجسد (حقد مؤسسات الثقافة الأبوية)، فهي من ناحية أخرى ضد تسليع الشهوة، والطابع السلعي لاقتصاديات الدعارة الاستهلاكية.

-4-

الفانتازيا والإيروتيكا هي وسائل للتحرر، وسائل للتنوير، ولمحاولة الوصول للحياة الكاملة، وللذات الحقة. الوصول للحرية عن طريق النشوة الجنسية، وسط بيئة مقموعة قيمياً، والوصول إليها أيضاً عن طريق الفعل السحري للقراءة (الأدب) والمقموع بالنفاق الديني والمجتمعي من ناحية، وبالقيم الاستهلاكية لسوق أدب البست سيلر من ناحية أخرى. إن الإيروتيكا وقراءة الأدب عند فرغلي هما القادران على تقريب الشخوص من الإنسان الأكمل، ومن التسامي به والتعالي، حتى أنه أحياناً ما تتلاشى بفعل القراءة الثنائية التي تفصل الأدب عن الحياة، فتصبح قراءة رواية هي الحياة الحقيقية، والحياة نفسها تحاول أن تصبح هي الرواية؛ (أبناء الجبلاوي) و (معبد أنامل الحرير)، على سبيل المثال.

إن الجسد يهيج الحس، والأدب يهيج العقل، فتهييج الحس يوازيه تهييج الرغبة في التنوير، ولذة الجسد، يوازيها لذة القراءة، وهناك تجلي آخر لشكل اللذة الجنسية عند فرغلي؛ ألا وهي لذة الكلمات، واللذة التي تقدمها قراءة الأدب. إن الاقتباسات الأدبية المتعددة، والمصادر الروائية التي يقدم لها التحية في أعماله، تبدو كما لو كانت لحظات للشخوص تشبه اللحظة الجنسية في قمة هيجانها، والمتعة العقلية التي يمنحها نص متألق لا تقل بحال عن المتعة التي تمنحها النشوة الجنسية.

في (جنية في قارورة) تصبح قراءة (كتاب اللاطمأنينة) لفرناندو بيسوا هي العلاج الذي يعيد التوازن النفسي والروحي إلى حنين التي كانت كانت تعاني من التنازع بين الهويتين الفرنسية والمصرية، و (دون كيخوتة) حاضرة في (معبد أنامل الحرير)، و (الجبل السحري) و(مائة عام من العزلة) حاضرتان في (قصر العزلة)، على سبيل المثال ، بل إن (معبد أنامل الحرير) بأكملها مبنية على حبكة نص روائي هو البطل، حيث نتابع رحلته في البحث عن مؤلفه، ويتشابك مع تلك الرحلة، منطوق النص نفسه، والسيرة الذاتية لمؤلف النص، والشخصيات التي تعثر على النص أثناء رحلته.

مرة أخرى، يمكن أن نعتبر (معبد أنامل الحرير) نصاُ خرافياً، بنفس القدر الذي يمكن أن نعتبره نصاً واقعياً. هل سنجد مشقة في العثور على كتاب وفنانين وعشاق يعيشون في أنفاق تحت الأرض، لأن حاكم المدينة “المتكتم” يفرض رقابته على الآداب والفنون ويحرق الكتب ويقتل العشاق؟ يكفي أن ينتقل القارئ العربي الذي ما زال يتمتع بنعمة الحياة في دولة بضعة مئات من الكيلومترات شرقاً أو غرباً ليصبح الخرافي واقعياً. بإمكاننا دائماً، وفي أشد النصوص فانتازية عند فرغلي، أن نتعرف على جزء من الواقع تعرفاً يقينياً.

تشابك السرد وتعدده في (معبد أنامل الحرير)، وتعدد الأصوات في (أبناء الجبلاوي)، وتكرار القصة مرتين من وجهتي نظر مختلفتين في مجموعة (أشباح الحواس)، على سبيل المثال لا الحصر، لا يمكن إلا أن تصدر عن كاتب مؤمن ومتشرب بقيمة الحرية. إن تعدد أصوات الراوي من ناحية، وتعدد التفسيرات للنص المروي من ناحية أخرى، هو تجلي آخر من تجليات قيمة الحرية عند فرغلي، كما الإيروتيكا هي صورة من صور الحرية عنده أيضاً.

-5-

يحاول الإنسان التحرر لكن النتيجة مسكينة. إن محاولات الشخوص للتحرر لا تصل إلى النهاية السعيدة عند فرغلي، كما أن محاولات الاستدفاء بالآخر وإيجاد الأمان أو الملاذ فيه ولو للحظة كما في قصة (ثلاث شمعات) لا تتحقق إلا نادراً. إن هناك مشكلة كبرى في الاتصال بين البشر في أعمال فرغلي؛ قد تحاول الشخصية شطب المسافة بينها وبين الآخر، لكنها في الغالب لا تفلح، كما لا يفلح مسعاها في شطب المسافة بينها وبين العالم، ويظل الاغتراب، واجتياح الشعور به، هو المنتصر والسائد في النهاية. حتى التواصل الجسدي لا يقدم حلاً للمشكلة الاتصالية بين البشر عند فرغلي، بل تظل الهوة بين الأنا والآخر كقصة (شامات الحسن)، وباقي قصص المجموعة التي تحمل نفس الاسم؛ تظل العتبة التي تفصل بين الفرد وبين الآخرين، حتى مع اجتماع البشر؛ وكأن الاجتماع البشري هو اجتماع حسابي إحصائي.

بل إننا نجد حتى المهانة والألم مصاحبان لفعل الجنس في كثير من أعماله: (Screw Driver)، (إيقاع رتيب لسنوات عجاف)، (مشاهد من أعلى الجدار)، (جنية في قارورة)، (أبناء الجبلاوي)، (شامات الحسن) على سبيل المثال. يظل الإنسان جزيرة منعزلة، في عالم من الجزر المنعزلة، وتظل المسافات بعيدة بين البشر، وتظل المشكلة الاتصالية دون أن يفلح الجنس أو حتى الفن والأدب في حلها؛ ويظل الخواء دودة كبيرة تنخر في أعماق الإنسان، ويظل الإنسان يحملها كمن يحمل خرابه بداخله.

من هنا يمكن فهم اقتران الجنس بالوجل والخوف، وبالكذب (خصوصاً الكذب على النفس وخداع الذات) في لحظات الاقتراب من النشوة بين الحبيبين في (Screw Driver)، أو أن يصبح أمل تحقق النشوة هو آخر محاولة إنسانية قبل مغادرة الحياة سواء بالموت كما في (دون كيشوت) و (موديل عار) أو الإصابة بالجنون كما في قصة (تذكارات)؛ كما لو أن الجنس يؤكد على الخواء، والفقد، بدلاً من أن ينجح في محوهما. إن هناك حزناً وجودياً يغلف لحظات الاتصال في أعمال فرغلي؛ وكأن الإنسان هو ابن الفراغ، ومحكوم عليه بلعنة الفراغ الأبدية.

لذلك لا تتحقق الرجفة إلا في خبرة الاتصال إما مع برص في (مشاهد من أعلى الجدار)، أو مع جنية في (تذكارات)، أو مع نفس النوع في (جنية في قارورة)، أو مع روح ميتة في (قصر العزلة)، أو بممارسات مازوخية في (عينان شاردتان).

-6-

لكن من هو الكائن الذي يمثل الأمل عند فرغلي؟ من هو الحافظ للطبيعة؟ والأقل خداعاً للذات؛ ذلك المؤهل أكثر من غيره للعثور على ذاته الحقيقية؟ يبدو أن فرغلي يودع تلك الصورة في المرأة تحديداً.

إن المرأة تحتل مكانة وقيمة كبيرة في أعماله، وهي الأكثر صدقاً مع ذاتها، والأقل خداعاً لنفسها، والأكثر نضجاً، والأوسع أفقاً، والأكثر حرية وشيقية وحياة من الرجل، فإذا أضفنا أن ذلك تحققه المرأة في جو وبيئة عدائيتين، لأدركنا الإنجاز العظيم للمرأة؛ لأنه إنجاز يتحقق في بيئة معادية لا مواتية. تلك البيئة المهيمن عليها البناء الثقافي الأبوي الذي يحاول حصرالمرأة في العمل المنزلي والإنجاب، والذي نجده في الشرق كما في (عفاريت العولمة) أو (جنية في قارورة)، والذي وجد أيضاً في أوروبا مع اتساع العداء لمبدأ اللذة مع تبني الدولة الرومانية للديانة المسيحية رسمياً منذ القرن الرابع الميلادي، حين تزايد الاشمئزاز من الجسد، وتصاعد تحقير للمرأة باعتبارها محفزة للمعصية.

إن المرأة تبدو هي “البطلة” الحقيقية في أعمال فرغلي، ورؤيتها للحياة أكثر غنى من رؤية الرجل. إن الرجل مفلس وجامد ومتصلب، حسياً وروحياً، بينما المرأة كائن أقرب إلى الطفل؛ مخلوق لايزال يحتفظ بالبراءة والطراوة والعذوبة وتدفق الحياة والتلقائية؛ إنها حافظة الطبيعة الإنسانية التي تمزقها الحضارة الحديثة، وهي المبادرة، والأكثر قدرة على اكتشاف القوى الكامنة بالإنسان، إن المرأة عند فرغلي هي الأمل في تحقيق الكمال البشري.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم