انتقلت إلى عالم لا يمكنني وصف طبيعته أو الكيفية التي أعيش بها داخله برفقة أفراد وجماعات لا حصر لهم من المفقودين في حوادث سابقة، وقع بعضها قبل أن أولد .. كل ما يمكنني قوله إنه عالم ـ وهذا بديهي ـ ليس بوسع الذين خارجه أن يروه، ولا يملك الشخص الذي ينتمي إليه القدرة على الإفصاح عن وجوده أو العودة إلى حالته المعلنة .. أدركت أن اختفائي سيكون أبديًا، ولم أشعر بالألم تجاه هذه الحقيقة؛ إذ أن هذا العالم لا يكاد يختلف عن ذلك الذي غادرته عند اصطدام القطارين. مازلت أعرّف نفسي بذلك اليقين الصلب، الذي لم يتغيّر طوال الماضي بأنني شخص يشعر ويفكر ويتصرّف في الحياة وفقًا لإرادة لا تخصه. أن كافة الأحاسيس والانفعالات والتصورات والظنون والقرارات التي يتخذها لكلماته وأفعاله تتم بمشيئة قوة مطلقة، لا يستطيع تحديدها، تفرض على جسده أن يعيش على نحو معين، كما أنها تجبره أيضًا على الاعتقاد بامتلاكه لذات مستقلة، منفصلة عن أي سلطة خارجها .. كنت أصدق أحيانًا ـ مثل الجميع ـ هذه الخدعة القهرية، وأتغافل بثقة عمياء عن هذا التأكد، لكن دائمًا كان بوسعي استرداده في أي لحظة .. داخل هذا العالم الخفي الذي انتقلت إليه، مازال لدي هذا اليقين، ولكن لم يعد هناك مجال لنسيانه، كما أن جسدي أصبح أكثر استيعابًا لهويته الأصلية .. أنا أداة .. وسيلة لتنفيذ أمر .. وبالرغم من أنني لم أتعرّف بعد على هذه القوة المطلقة إلا أن دوافعها التي تُشكل نفسي وتحرّك خطواتي صارت مكشوفة كليًا .. أدركت أن اختفائي الأبدي سيعني الرجوع إلى الحياة التي تركتها محتفظًا بحالتي غير المرئية، ولفترات مؤقتة بقدر الزمن المناسب لإنجاز المهام التي أُكلف بتنفيذها قبل العودة إلى العالم المتواري الذي أصبحت ابنًا له. أرجع إلى الحياة التي كانت آخر لحظاتي فيها هي اصطدام قطارين، ثم العودة إلى الخفاء بعد أن أكون قد تركت الموت والخراب في مكان ما. هذا ما كنت أقوم به في الماضي قبل الحادث، ولكن بشكل مراوغ ومبهم، أما الآن فأؤديه بطريقة واضحة ومفهومة تمامًا .. مع ذلك فإنني لا أقتل أو أحرق أو أهدم بشكل عشوائي، مجردًا من التمييز، بل لابد أن يكون عملي مقترنًا بلحظة سعادة لأولئك الذين على وشك أن يكونوا موتى عاديين، أو جثثًا متفحمة، أو أبدانًا مسحوقة تحت الأنقاض .. لابد أن يكون القتل هو النغمة الأخيرة في متعة جنسية سأتمكن من رؤيتها بفضل اختفائي .. لابد أن يكون الخراب هو الإيقاع الختامي لمضاجعة سأتلذذ بمراقبتها دون يشعر بي أحد، وسأكون الوحيد الذي يصل إلى الأورجازم من خلالها .. أصبحت أمرر الموت المفاجئ عبر الأسرار المكتومة في الفراغ المحيط باختلاسات النظر، وإغماضات العيون، وتلاحق الأنفاس لكل جسد يحاول بعريه أن يحمي ظلامه الشخصي من عري الآخر.
لا أعرف هل كان وقوع الحادث بعد ثلاثة أيام فقط من بلوغي الأربعين مجرد صدفة، أم ينطوي على معنى؟ .. شخص ما ـ لعله باسكال ـ قال إن من بلغ الأربعين ولم يكره البشر فكأنه لم يعرفهم .. أظن أن الأمور قد سارت على نحو منطقي إذن، ليس به أثر للصدفة .. قبل ثلاث سنوات قطعت علاقاتي بأصدقائي، وتوقفت عن الخروج من البيت إلا نادرًا بعدما أصبحت غير قادر على الاستمرار في توزيع عاهاتي الثابتة على الآخرين، والتي لم تتوقف عن النمو منذ عام 1977 .. أردت أن ينسحب من ذاكرة البشر ـ لو كان هذا ممكنًا ـ ذلك الرجل المرتبك، المتلعثم، الغافل، مدعي القوة والمكر واللامبالاة، المضحك، والتائه .. الذي تتدافع الثرثرة التافهة من بين شفتيه أمام الناس عن حياته وماضيه، مستعرضًا تفوقه المبهر، ومزاياه العجيبة، وقدراته الخارقة طمعًا في التقدير والخلود وتصفية دماء الوجوه المبتسمة التي تحاصره بالضحكات المكتومة، وتوسلا للغيب أن يعتبر هذه الانفعالات الواثقة، المسكينة التي ورثها من أسرته قربانًا ملائمًا لمنحه الرحمة .. لم تعد لدي أدنى طاقة لتحمّل الفضح المتواصل لنفسي، الذي لم يكف أبدًا عن تحويل أسراري الثمينة إلى سخافات مبتذلة، تُقطّع وتتداول بين أيدي كل الذين يريدونني أن أكون مثلهم أو أقل .. حينما يطلب منك شخص ما أن تحدثه عن إحدى قصصك القصيرة مثلا، خصوصا لو أن هذا الشخص تعذبه الفجوة العسيرة الهائلة التي تُجبره على أن يرفع عينيه لأعلى حينما يتحدث إليك، فإن قصتك بمجرد أن تبدأ في الكلام ستشبه قصته بعد أن أزلت الرهبة الغامضة بيديك، وساعدته مؤقتًا على الانتقام منك .. لهذا حاولت أن أعيش في وادٍ بعيد، يحمي موتي من المهانة، وهو ما جعلني في السنوات الثلاث الأخيرة أجرب سعادة مختلفة، لم أعشها من قبل، نتيجة غياب الأصدقاء من حياتي .. أصبحت أكثر تناغمًا مع عزلتي، وأكثر تصالحًا وانسجامًا مع الماضي، بل يمكنني القول ـ مهما كانت غرابة ذلك ـ أنني وصلت قبل اصطدام القطارين إلى درجة من التفاؤل بما يمكنني تحقيقه في المستقبل كنت أظن أنه من المستحيل أن أبلغها في هذا السن، وبعد كل ما جرى لي .. لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلا عن التدفق الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي .. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من قصيدة “عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط”.
لا تخف
ليس معنى الوقوف في النافذة
أنك ستسقط
ليس معنى السعال
أنك مصاب بالسرطان
ليس معنى ضيق التنفس
أن قلبك به شريان مسدود
الحياة فقط هي التي معناها
أنك ستموت.
هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم.
أستطيع بالتأكيد أن أزور عائلتي وأصدقائي ومعارفي السابقين دون أن يدركوا شيئًا عن حضوري بينهم .. الذين بحثوا عني في المستشفيات والمشارح ولم يجدوني، ثم نشروا صورتي في كافة الأماكن، وطال انتظارهم لعودتي دون جدوى .. لكن عائلتي وأصدقائي ومعارفي لا يزالون ضمن الحياة التي لدي عمل فيها؛ لذا سيكون لكل واحد منهم دوره بحسب المهمة التي سأكلف بتنفيذها .. حينما يأتي موعد أحدهم، لن أمنحه بالتأكيد معاملة خاصة؛ فهذا ليس في إمكاني، وإنما سيكون لدي القدرة أن أمنح نفسي هذه المعاملة الخاصة عند قتله في اللحظة التي يكون فيها عاريًا، وعلى وشك الوصول إلى ذروة النشوة.