الكاتبة الأمريكية: كيت شوبان
ترجمة: د. إقبال محمدعلي
كانت السيدة “بورودا”، منزعجة من زوجها بعض الشيء، لدعوة صديقه “غوفرنيل”، قضاء أسبوعٍ أو أسبوعين في مزرعتهم دون استشارتها. كانت تَصْبو لشيء من الراحة و تمضية الوقت مع زوجها، دون وجود آخرين. إذ أنها صَرَفت معظم فصل الشتاء، في استقبال وتوديع الضيوف والذهاب بين آونة وأخرى إلى مدينة “نيو اوريليانز”، لقضاء بعض الحاجات و الترفيه عن ضيوفهما.
سمَعَت الكثير عن هذا الرجل. كان صديق زوجها أيام الدراسة، الآن يعمل صحافياً. ما كان من رجال المجتمع أو أهل المدن، لذا لم تسمعْ او تلتقِ به سابقا. تَخيّلتهُ، طويلاً، نحيفاً، ساخراً، بنظاراتٍ و يضع يديه في جيوبه، لم يعجبها. ما كان “غوفرنيل”، بنحيفٍ أو طويلٍ أو ساخرٍ أو بنظاراتٍ، ولا يضع يديه في جيوبه، لكنه أعجبها حين قام بتقديم نفسه.
حاولت أن تجد لنفسها، أسباباً مقنعة للإعجاب به. إذ أنها لم تتوسم فيه، دلائل ذكاءٍ أو خصالٍ واعدة كما ذكر زوجها غاتسون في العديد من المناسبات. كان يجلس بصمت، ينصت إلى ثرثرتها، غايةَ أن يشعر أنه في بيته، إكراما لغاتسون، زوجها. كان الرجل غايةً في الدماثة -(الشيء الذي تتوقعه أية امرأة في منزلتها)، ما تزلف للحظِي برضاها أو تقديرها.
بعد استقراره في المزرعة، اختار الجلوس في رواق البيت الفسيح، تحت ظل أحد الأعمدة الضخمة الكورونثية الطراز، مُتلذِّذاً بتدخين سيجارته، مصغياً بمنتهى الانتباه، إلى تجربة صديقه غاستون في مزرعة السكر.
“هذه هي الحياة”.. أطلقها بزفرة عميقة. كان الهواء يندفع بخفة من حقل السكر، يلاعبه بدفء نفحاته العطرة… الكلاب الكبيرة، ألفت وجوده، تتمسح برجليه لحكِ جسمها. لم يبد اهتماماً بصيد السمك أو شغفاً بصيد عصافير الدوري حين اقترح غاتسون مشاركته هذه الرحلات.
حَيرتها شخصيته، لكنها وجدت نفسها معجبة بوداعتهِ و ودهِ. بعد مضي عدة أيام، بدأت تفهمه أكثر غير آبهةٍ لأحجِياتها و فضولها…. بهذا المزاج، تركت زوجها وضيفه يقضيان الكثير من الوقت مع بعضهما البعض. حين وجدت أنه غير مهتم بها، بدأت تفرض وجودها عليه بمرافقته في رحلاته المتكاسلة إلى الطاحونة والتمشي عند أعالي النهر. كانت تأمل باصرار، إخراجه من حالة التحفظ التي يغلف بها نفسه.
– متى يرحل صديقك؟ سألت زوجها في أحد الأيام. بدأت أشعر بالتعب.
– لم يمض اسبوع بعد يا عزيزتي! لا أفهم! … هل ضايقَك بشيءٍ؟
-كنت سأحبه أكثر لو فَعَل . ليته كان مثل الآخرين، لأضع خططاً، تجعل إقامته بيننا أكثر متعة وراحة.
احتضن غاتسون وجه زوجته الجميل بين يديه ونظر إلى عينيها المحتارتين، بحب ومودة (كان الحديث بينهما يجري في حجرة الملابس المشتركة المرفقة بحجرة زوجته).
– أنت مليئة بالمفاجآت يا حلوتي .. أعتقد أنني سأشعر بنفس الحيرة لو كنت مكانك. ثم قبلها واستدار ليكمل شد ربطة عنقه امام المرآة.
– أنت تحملين المسكين غوفرنيل مَحمَل الجد وتخلقين جلبة حوله، أعتقد أن هذا آخر ما يرغب به أو يتوقعه.
– جلبة؟ (تساءلت بامتعاض)، هراء ،كيف يمكنك قول ذلك؟ جلبة بالتأكيد! انتَ من قال، إنه ذكي!.
– إنه ذكي بالتأكيد، لكن الرجل مُجهَد من العمل، لذا طلبت منه زيارتنا، كي يرتاح قليلاً.
– قُلتَ إنه صاحب أفكار ..(ردت محاججة)، كنت أتوقع على الأَقَلِّ، أن يكون ظريفاً. على كل حال، سأذهب صباح الغد إلى المدينة لأخذ قياسات فساتين الربيع. أخبرني عندما يغادر، سأكون عند عمتي أوكتيفوس.
جلست في ذلك المساء وحدها على مِصْطَبةٍ، تقع على حافة الممر الحَصَوِي، تحت شجرة بلوط ضخمة.
لأول مرة في حياتها، تمر بهذا النوع من التشتت و الإضطراب …خُلاصةَ ما انتهت إليه للحدِ من وضعها الملتبس، مغادرة البيت صباحاً.
سمعت السيدة بورودا وقع أقدام على الحصي. لم تستطع تمييز القادم في الظلمة لكنها رأت نقطة حمراء لسيجارة مشتعلة. عرفت أنه غوفرنيل لأن زوجها لا يدخن. كانت تتمنى أن لا يراها، لكن ثوبها الأبيض فضحها. ألقى بسيجارته على الأرض وجلس بجانبها دون أُذنٍ.
– أرسل زوجك هذا، سيدة بورودا. قدم لها الوشاح الأبيض الشفاف الذي عادةً ما تغطي به رأسها وكتفيها، أخذته بغمغمة شكر ووضعته في حضنها. علق بشكل عابر عن تأثير هواء الليل الوخيم على المواسم ثم حدق في الظلام مدمدماً بصوت خافت: “ليل رياح الجنوب … ليل النجوم الشحيحة … ليل ناعس” …
لم ترد على هذه الفاصلة التي لم تكن موجهة إليها. كان غوفرنيل خجولاً، لا يبالي بما يقوله الآخرون عنه، فحالات تحفظه لم تكن متأصلة، قدر ما كان يتحكم بها مزاجه. قطع صمته وبدأ يتحدث بحرية ومودة، بصوت خافت متردد، متنقلاً من موضوعة إلى أخرى بجاذبية … تَذَكر أيام الجامعة والصداقة المتينة التي ربطته بغاستون؛ طموحاتهما، حماساتهما والأهداف الكبيرة التي رسماها لنفسيهما…مُحصَّلة ما بَقيّ من تلك الأيام.. الخنوع لقوانين اجتماعية سائدة، بلى عليها الزمن .. رغبة البقاء، وحُلمِ أن تَنعُم علينا الحياة يوماً، بنفحةِ سعادة حقيقية،كالتي أتنفسها الآن.. في هذا المكان.
لم يَعُد ذهنها قادراً، على استيعاب ما كان يقول… قوة مُبهمة سيطرت على جسدها وأحاسيسها… أسكرتها نبرات صوته لدرجة لم تعد تهتم بكلماته…. كان بودها، أن تمد يدها في الظلمة، تمرر أصابعها على وجهه، تلمس شفتيه، تلتصق به وتوشوش بأذنه، لم يَعُد يهمها ما ستقول… تمنت في تلك اللحظة أن تكون أمرأة عادية، يمكنها البوح بمشاعرها بطريقة لا يمكن لأية “امرأة محترمة” التعبير عنها. كلمة اشتدت رغبة الاقتراب منه، تعاظمت دوافع الابتعاد عنه…… بعد استعادة السيطرة على نفسها، نهضت من مكانها بأدب وتركته لوحدهُ. قبل أن تصل البيت، أشعل غوفرنيل سيجارة أخرى، ينهي بها ليلته.
كانت السيدة بورودا، ترغب جداً، إخبار زوجها- الذي كان صديقها في نفس الوقت- عن حقيقة ما يعتمل في داخلها لكنها تراجعت. فباستِثناء كونها “امرأة محترمة”، كانت امرأة متعقلة تدرك أن هناك معارك في الحياة يتوجب على المرء خوضها بنفسه.
عندما استيقظ غاستون من نومه صباحاً،كانت زوجته قد غادرت البيت مبكرة للِحاق بقطار الصباح المتوجه للمدينة لزيارة عمتها أكتيفوس ولم تَعد إلى البيت إلا بعد مغادرة كوفرنيل سقف بيتها.
جرت أحاديث بينهما لاستضافة غوفرنيل في الصيف القادم، عبر فيها غاستون عن رغبته الشديدة، رؤية صديقه مرة ثانية، إلا أن مقترحه جوبه بمعارضة شديدة من زوجته.
قبل ان تنتهي السنة، طرحت على زوجها، فكرة دعوة غوفرنيل لزيارتهم مرة أخرى، دهش وابتهج زوجها للمقترح لأنه جاء من جانبها.
– أنا سعيد يا حبيبتي، أنه نال رضاكِ أخيرا. لأنه في االواقع، يستحق ذلك.
– قالت ضاحكة بعد أن طبعت قبلة حارة على شفتيه: سأضع كل شيء وراء ظهري، سترى، وسأكون في المرة القادمة، أكثر لطفاً معه.
17/05/2019
………………..
“الأفكار، تتكاثر كالأرانب، ما إن تبدأ بواحدةٍ أو اثنتين، حتى تجِد نفسك غارقاً بالعشرات”.
جون شتاينبك
“باستِثناء كونها “امرأة محترمة”، كانت امرأة متعقلة تدرك ان هناك معارك في الحياة يتوجب على المرء خوضها بنفسه”.
كيت شوبان